لست من النابهين في مادة الرياضيات ولست من عشاقها، لكن علماء الرياضيات وفلاسفتها يقولون إن الصفر من أعظم الاختراعات في تاريخ البشرية. ولم أهتدِ إلى المخترع الأول للصفر في التاريخ؛ فمنهم من ينسبه للإغريق ومنهم من ينسبه للبابليين ومنهم من يؤصله عند الفراعنة. ولكن جميع المصادر تجمع أن اكتشاف الصفر وتصديره للعالم كان إنجازاً عربياً دون منافس.
في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور قدم وفد هندي إلى بغداد، وكان من بين الوفد علماء هنود في الرياضيات والفلك والطب، وقد ختم الوفد زيارته لبغداد بتقديم هدية نفيسة للإمبراطورية العربية العظمى وهي عبارة عن (كتاب) عظيم في الرياضيات اسمه (السندهند). ثمّن أبوجعفر المنصور الهدية تثميناً بليغاً واحتفى بها علماء العرب، واعتبر الكتاب في حينها أعظم هدية تقدم للإمبراطورية العربية لأنها غيرت مسار التاريخ العلمي في الإمبراطورية وفي العالم.
قدم محمد بن موسى الخوارمي من مدينة خوارزم في خورسان إلى بغداد حاضرة العرب مع أسرته، واستقر في بغداد واشتغل بالتعليم في دار الحكمة التي أسسها الخليفة المأمون وقدم الكثير من البحوث والدراسات في مجال تخصصه في الرياضيات، والذي صار يسمى فيما بعد في العالم كله بعلم (الخوارزميات). كان الخوارزمي من أكثر العلماء اهتماماً بكتاب (الهندسند) وأشدهم درساً وبحثاً فيه، وقد لاحظ الخوارزمي أن النظام الرياضي الهندي يستخدم الأرقام من (1-9) ثم يستخدمون ثقباً أو نقطة لتحل مكان الرقم العاشر، وأن هذا الثقب أو النقطة يتكرر ويتضاعف أحياناً مع الأرقام التسعة في نهاية التسلسل العشري اللامنتهي للأرقام، ولاحظ أن هذا الثقب يستخدم لغايتين؛ الأولى التعبير عن فراغ في الخانة في العمليات الرياضية، والثانية لزيادة الرقم بعد التسلسل العشري. وبعد دراسة عميقة للنظام الرياضي الهندي اكتشف محمد بن موسى الخوارزمي الرقم صفر ووظيفته في الرياضيات، ومن ثم انتشر الاكتشاف العربي في العالم مع ترجمة أعمال الخوارزمي.
كانت بغداد حاضرة الدنيا في عهد أبي جعفر المنصور ومن تلاه من خلفاء بني العباس قبل أن يتردى بهم الحال وتضرب الفتن أوتادها في أرجاء إمبراطوريتهم ويعبث بهم الفرس والترك وعملاء الداخل من سفهاء القوم والنخاسين والجواري، وكانت بغداد لقرون طويلة مهوى أفئدة ذوي الألباب والإنتاج العلمي من كافة أقطار الدنيا. دخلها الوفد الهندي مكتنزاً بالعلماء والباحثين، واعتبر كتاب (الهندسند) في حينها من نفائس الهدايا التي تقدم للإمبراطورية العربية، نعم الكتاب، وليس سيوف الهند الذهبية ولا جواهرها ولا التوابل والحرائر ولا الجواري. وقدم محمد بن موسى الخوارزمي إلى بغداد عالماً معلماً، لم يأت لاجئاً أو طالباً للرزق في شوارعها أو غازياً يتآمر عليها، كان أعجمياً من أبناء الإمبراطورية ولم يعتبره أحد وافداً في بغداد أو مواطناً من الدرجة الثانية أو الثالثة، وقد وثق كل إنتاجه باللغة العربية وتُرجم عنها ضمن منجزات الحضارة العربية الإسلامية، وصار علمه علماً عربياً إسلامياً (الخوارزميات) يدرس في كل جامعات الدنيا ومعاهدها باختلاف لغاتها وأديانها، باسمه وينسب للإمبراطورية التي احتضنته واحترمته.
تذكرت تاريخ (الصفر) ذات مساء في حوار مع أحد الأصدقاء في شأن حال المواطن العربي وقيمته في وطنه وخارجها، وفي محاولة لتصنيف الوضع العربي تذكرت الصفر وتاريخه العربي ووجوهه المزدوجة ووظائفه المتعددة، وتساءلت هل العرب يمثلون اليوم فراغاً وخواء وخلاء وخانة خالية لا يشغلها شيء ولا يقف بجانبها شيء؟ أم هم نقطة قوة تقف على يمين القوى العظمى تضاعف قواها وتؤثر في مستوى أدائها؟ أم هم ثقب على اليسار لا يساوي شيئاً وإن وقف عن يمينه مليارات الأرض كلها؟!