المثير في أمر الجمعيات السياسية هو أنها كلما وصلت إلى طريق مسدود دعت إلى الحوار، وكلما ضاقت بها السبل أو اقترب موعد النشاط الحقوقي في الأمم المتحدة دعت إلى الحوار، أما خارج هذه المناسبات والأحوال والظروف فإنها تجمد هذه الدعوة وتقرر أن إبقاء الحال على ما هو عليه أفضل. الجمعيات السياسية تدعو إلى الحوار أحياناً رغم أنها تعلم أنها غير جادة في دعوتها لأنها تعرف جيداً أن «القوى الثورية» المتمثلة في شباب ائتلاف فبراير وغيرها من الحركات التي تفتقر لتجربة العمل السياسي سترفض مثل هذه الدعوة وأنها لن تتأخر عن رفع العصا في وجهها وتهديدها بإخراجها من الساحة، كما تعرف أنها في حالة موافقة الأطراف الأخرى ذات العلاقة لعقد جولة جديدة من الحوار ستنسحب منه سريعاً بسبب عدم قدرتها على الصمود وإصرارها على الحصول على كل شيء.
الدعوة إلى الحوار صارت كما النكتة الموسمية، ويسير معها في الخط نفسه الدعوة إلى مد الجسور بين الأطراف ذات العلاقة والتواصل مع الحكومة لضمان عقد الحوار ونجاحه، فالجمعيات السياسية تعلم جيداً أيضاً أن هذه الدعوة غير ممكنة التحقق، لأنه بالمنطق لا يمكن لأحد منها أن يصير وسيطاً بينها وبين الحكومة التي من الطبيعي بعد كل هذا الذي جرى ومر على البلاد أن تثق فيه وفي هذه الجمعيات وتتعاون معه.
هو كلام جميل ولكنه يبدو وكأنه للاستهلاك الخارجي فقط، فالرسالة مرسلة أساساً إلى المنظمات الحقوقية وإلى كل «من يعنيه أمر المشكلة البحرينية» وأولهم إيران، وملخصها أننا كجمعيات سياسية معارضة نريد الحوار ونريد قبل هذا تهيئة الطريق إليه ولكن الحكومة هي التي لا تريد وهي التي تضع العصا في الدواليب.
من الأدلة على عدم جدية الجمعيات السياسية في دعوتها للحوار ولبناء الجسور أنها تنسى هذه الدعوات فور انتهاء النشاط الحقوقي في جنيف، وتنساها فور أن تصلها رسالة في سطرين من تلك المجموعات التي تسلمت الشارع منها وصارت تقودها، تنساها لتعود في مناسبة أخرى لتطرحها من جديد ولكن بالأسلوب المكشوف نفسه.
الدعوة إلى الحوار لا يقبل أن تكون موسمية أو عندما يكون المزاج رائقاً، مثل هذه الدعوة لا بد أن تكون مستمرة وجادة وتصر عليها الجمعيات السياسية وتسعى إلى ترجمتها إلى واقع، حيث بإمكانها -كونها جمعيات سياسية تعمل تحت مظلة القانون وتمارس العمل السياسي وتشتغل به- أن توجد لنفسها الطريق للتواصل مع الأطراف الأخرى وإقناعهم أولا بجديتها وتمسكها بهذا الخيار وبتسخيرها كل إمكاناتها وخبراتها لتحقيق هذا الأمر ثانياً، وثالثاً توفر الدليل تلو الدليل على أنها مستعدة لتقديم مصلحة الوطن على مصلحتها الضيقة وأنها على قناعة تامة بأنه لا خيار آخر غير هذا الخيار وأن تؤكد هذه القناعة باتخاذها موقفاً من كل من يرفض الحوار أو يضع له شروطاً سواء من أولئك الذين يزاحمونها في الداخل أو الذين اختاروا العيش في الخارج وتفرغوا للتنظير.
الجميع يعلم أن الحوار هو الباب الذي لا باب لنا غيره للإفلات من المشكلة التي صار فيها وطننا، والجميع يعلم أنه من دون الحوار لا يمكن لأي طرف من الأطراف أن يحقق أي مكسب فعلي، لكن الجميع صار يعلم أيضاً أن دعوة الجمعيات السياسية إلى الحوار ليست إلا أداة تستخدمها عندما تقرر أن استخدامها في هذا الوقت ينفعها.
كي تثبت الجمعيات السياسية لمن اختارت أن توصل إليهم رسالتها وأن الحكومة جادة في دعوتها للحوار وأن ما تدعو إليه ليس دعاية، فإن عليها أن تثبت ذلك بتوقفها عن ممارسة أو تأييدها للممارسات الصبيانية التي لاتزال تشهدها شوارعنا وتتناقض مع مثل هذه الدعوة.