^  مَن يتذكر كيف كانت بغداد بالأمس ويراها كيف هي اليوم يشعر بالأسى والحزن على هذه المدينة الجميلة والبلد الرائع، وهل هناك أجمل من العراق ومدنه؟ فقد استضافت بغداد في يوم الخميس الماضي القمة العربية الثالثة والعشرين، وما تميزه هذه القمة أنها تنعقد بعد عام واحد من تسونامي الربيع العربي الذي حل ضيفاً علينا خلال الفصول الأربعة للعام السابق ومازال زئيره يتواصل وتداعياته مستمرة في بعض الأقطار العربية. ويغيب عن هذه القمة أربعة من رؤساء الأقطار العربية العُتق، رئيس فر بسلامته، ورئيس حل ضيفاً في سجونه، ورئيس قتله مناوئوه، ورئيس خرج معفياً من الملاحقة السياسية والقضائية. قمة يحضرها من أراد أو من ينوب عنه، تغيب عنها سوريا المشغولة بدمارها وضحاياها. عقدت القمة وسوريا تحترق أرضاً وشعباً، ومصر مازالت تحت ظلال الحُكم السابق، ومازال القتال مستمراً في ليبيا بسبب الاختلاف على تقاسم غنائم الثورة، واليمن حالها لا تبشر خيراً، وتحت الرماد التونسي ما يُحذر منه ويُخاف. وما خفي في بعض الأقطار العربية الأخرى أبلى وأعظم. لم تكن القمة البغدادية أفضل من القمم الـ22 السابقة، ولن تشكل منعطفاً تاريخياً للأمة العربية، ولا في العمل العربي المشترك - المهضوم حقه، وكل عربي في هذا الوطن من شرقه إلى غربه يتذكر جيداً المنعطفات العربية من سياسية واقتصادية وعسكرية وديمقراطية مرت على بلاده، ولم يسلم منها الإنسان العربي ولم يأخذ منها حقاً ولا باطلاً. نعم يتذكر المواطن العربي كم تأذى من هذه المنعطفات التي أسبغت عليها القمم السابقة والحالية شرعيتها، كانت السياسة العربية دون تعددية سياسية، وديمقراطيتها تسير بجنازير الدبابات، مكاسب الشعب تمنح برعاية القائد التاريخي والزعيم الأوحد للأمة، وأمانها يقبع تحت حراب الحزب القائد، إعلام أقطارنا مُطرز بخيوط القصر وبمداد صانعي دواوين الروايات الوطنية وبيانات التصدي والصمود، وبأنامل حسبة الخزينة العامة الذين يدفعون للواصلين الداني منهم والقاصي. فأي منعطف ستكتبه لنا بغداد؟ وهي التي تحتاج إلى مَن يُضمد جراحها، ويُسعف سيادتها، ويوقف نزيف استقلالها، ويواسي تجزئتها، ويُقرب بعيدها، ويبعد عنها دخلاءها. في هذه القمة وغيرها من القمم الآتية وبعيداً عن ديباجة الإعلانات والقرارات والتوصيات، أنها ستؤكد على شيء واحد أو اثنين ولن تزيد على الثلاثة، أولهما أن قادة الأقطار العربية هم بحاجة إلى لقاء سنوي يستعرضون فيه قدرتهم على الخطابة وفي التأثير على شعبهم العربي، والثاني أنهم قادرون على الاستمرار في التمسك بموعد الاجتماع السنوي في نهاية شهر مارس من كل عام، وبذلك فهم ينالون صفة المؤمنين الموفين بعهدهم إذا عاهدوا، أما الثالثة فإنهم موقنون على أن ما يصدر عن هذه القمة وغيرها من القرارات ينتهي مفعولها بعد مغادرتهم قاعة القمة وذلك لأنهم ليسوا هُم الذين وضعوا وصاغوا هذه القرارات بل وزراء خارجيتهم هم مَن فعل هذا، لذا فهم غير مسؤولين عن تنفيذ قرارات الغير في الوقت الذي لا يستطيع فيه وزراء الخارجية بالتصرف إلا بما يسمح لهم أسيادهم بذلك. فمثلما وضع الربيع الأقطار العربية على صفيح ساخن مازال ساخناً، فإن قمة بغداد كانت ساخنة في وقت انعقادها وبردت قبل غروب شمس يومها، وعلينا أن ننتظر حتى وقت انعقاد القمة التالية (24) التي لا نعرف مَن سيحضرها وأين سيتم عقدها. لقد أثبتت القمم العربية جميعها بأنها مصدر إزعاج لكل مواطن عربي، فمنذُ أكثر من نصف قرن تنعقد هذه الاجتماعات إلا أنها خاوية الوفاض، لا شيء يتحقق من قراراتها، ولا يجني منها المواطن العربي خيراً، فهذه القمم لم ولن تحقق السلام والأمن للمواطن العربي، ولن ولم تُحقق التنمية الاجتماعية والاقتصادية للأقطار العربية. فهذه القمة لن تناقش قضية الإصلاحات الحقيقية المطلوبة في الأقطار العربية، ولن تناقش وضع دساتير عربية عادلة للشعب العربي، ولن تستطيع أن تحدد مدة رئاسة كل رئيس عربي، ولن تصدر قراراً يتبنى زيادة المساحة الديمقراطية العربية. فهي إذن قمة خرساء صماء بكماء. والمستفيد الوحيد من عقد هذه القمة هي الحكومة الحاكمة في بغداد، التي من خلال هذه القمة تريد أن تضفي على العراق شرعية السيادة المرهونة إلى الديمقراطية الأمريكية والتبعية الأجنبية، وأنها دولة الديمقراطية والقانون وهي فاقدة لأبسط هيكلية الدولة والمبادئ الديمقراطية، ولتثبت أن العراقيين هم أصحاب القرار في القرار بينما مؤسساتهم تُدار بتوجيهات خارجية، ويريدون أن يؤكدوا بأن العراق أصبح سيداً وحُراً بعد أن خرج الأمريكيون منه، بينما تتجول الفئات الحاكمة بين واشنطن وطهران لحل الأزمات التي خلقتها هاتان العاصمتان في العراق. وستعلن بغداد أن قمتها نجحت بمقياس منقطع النظير