تمثل أعمال الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة حدثاً مهماً لأكثر من سبب، أولها، أنها تعكس مرور سبعين عاماً وهي فترة طويلة في تاريخ التنظيم الدولي، فعصبة الأمم انهارت في خلال عشرين عاماً «1919-1939». وثانيها، الهدوء النسبي للعلاقات الدولية، فلم تندلع حروب رئيسة وظلت حروباً صغيرة أو إقليمية محدودة الأثر والنتائج، ولعل مرجع ذلك سيادة نظرية توازن الرعب النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في تلك الفترة. وثالثها، إن هذه الفترة شهدت مرحلة التحرر الدولي من الاستعمار لقارات أفريقيا وآسيا، بل وأوروبا، وأمريكا اللاتينية، والكاريبي، فانهارات إمبراطوريات ظلت قائمة لفترات تتراوح بين أكثر من قرنين أو أقل من نصف قرن من الزمن، ولعلنا نشير هنا للإمبراطورية السوفيتية، مقارنة بالإمبراطورية البريطانية أو الإسبانية والبرتغالية أو العثمانية. ورابعها، صعود الدول النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية في تجمعات عدم الانحياز والسبعة والسبعين وغيرها من التنظيمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي والآسيان ومنظمة الدول الأمريكية ومجموعة الكومنولث، ثم مجموعة الكومنولث المستقل، والفرانكوفونية والاتحاد الأفريقي وغيرها. أما الخامسة فهي زيادة عدد الدول الأعضاء في التنظيم الدولي وعدم انسحاب أية دولة عدا إندونيسيا التي انسحبت لفترة ثم عادت بخلاف الحال مع عصبة الأمم. وقد أصبح عدد أعضاء الأمم المتحدة 193 دولة عام 2014 بعد أن كانت تضم 51 دولة فقط عند إنشائها. والسادسة، بروز قضايا دولية بالغة الخطورة على مستقبل البشرية منها ما هو سلبي وما هو إيجابي، وما هو خليط بينها ومن ذلك مشكلة البيئة والتغير المناخي ومشكلة الديون والانهيار الاقتصادي وتداعياته على اقتصادات العالم بأسره، ومنها ظاهرة ثورة الاتصالات والإعلام الاجتماعي بما له وما عليه ومنها تحول الحروب من القوة المادية والبدنية وحركة الجيوش على الأرض وتلاحمها في إطار الشجاعة بالمفهوم التقليدي أو حتى بالذكاء في علوم الاستراتيجية والتكتيك ونحو ذلك إلى الحرب الإلكترونية والسيبرانية، ومن ثم برزت قضية الأمن الفضائي، والأمن السيبراني، ولا تزال قضايا أخرى عديدة تعاني منها البشرية، مثل الأمن المائي، والأمن الغذائي، والأمن الاجتماعي، وما ارتبط بذلك من تداعيات لها مرود إيجابي وبعضها سلبي. والسابعة، تبلور وعي عالمي بمخاطر الحروب الكونية الشاملة، ومن ثم اكتسبت نظريات الحروب بالوكالة أو الحروب التي تنتمي للجيل الرابع والأهم نظرية حافة الهاوية، حيث يتم التراجع بين القوى الكبري عند بلوغها درجة معينة من الخطر ونظريات الأزمة، سواء في صورة البحث عن حلول لها أو إدارة الأزمة مثل نظرية الحوار الدولي، والبحث عن مخارج من موقف معين مثل تجميد الأزمة والوضع الراهن أو الوضع السابق على الأزمة، وكل ذلك هدفه الغالب هو عدم الاندفاع نحو الهاوية بقوة في طريق الحروب وباختصار يمكن القول إن وعي البشر وبخاصة رجال السياسة والمسؤولين عن اتخاذ القرار السياسي بالمخاطر التي تنتج عن الحروب الشاملة، قد زاد ومن ثم تتوقف كثير من الدول عند حافة الهاوية، ونتساءل، هل الوعي السياسي الجديد في علم الأزمة سيكون متأصلاً لدى قادة الدول وأصحاب القرار أم إنه ظاهرة مؤقتة سوف تختفي سريعاً؟
إن الحس العلمي يشير إلى أنها ستكون حالة تتسم بقدر كبير من الديمومة النسبية، وإن كان يصعب القول إنها ستكون مسألة ديمومة مطلقة دائمة، أو إنها ستكون متأصلة ومتعمقة الجذور لدى الدول النامية التي لم يصل لدى بعضها الوعي بإدراك المخاطر ومن ثم التوقف عند حافة الهاوية، دون التورط في مغامرات خطيرة تؤدي لانهيار قوى إقليمية أو صعود قوى أخرى بطريقة غير متوقعة.
ولكن الذي يبعث على الأسف أن دول الشرق الأوسط لا تزال تفكر من منطلق يعتمد على منظورين خاطئين، أولهما المنظور الماضوي، بمعني أن دولة ما كانت إمبراطورية منذ عدة قرون لا تزال تحلم بإمكانية استعادة إمبراطوريتها ونفوذها متناسية تغير الظروف الدولية والإقليمية. أما المنظور الثاني والأكثر خطورة إن البشر خاصة في منطقة الشرق الأوسط يفكرون من منطلق خلط الدين بالسياسة، ويرون أن الدين هو الثابت الوحيد، وإن على السياسة أن تسير وفقاً له. ونحن لا نتحدث عن القيم الدينية أو حتى الممارسات الدينية وإما عما يمكن أن نطلق عليه الدين السياسي أو السياسة الدينية، وهي حالة سادت في أوربا في العصور الوسطى وتخلصوا منها في معاهدة وستفاليا عام 1648 بعد حرب ضروس استمرت زهاء ثلاثين عاماً. ولكن هذه الحالة في الشرق الأوسط لها جذورها وفروعها التي ما تزال تستأثر بفكر وسلوكيات كثير من البشر العاديين وليس فقط الحكام وأصحاب القرار بل الأدهى غرسها بين النخب المثقفة التي من المفترض أنها أكثر وعياً وإدراكاً لمسيرة التطور العالمي ولعبرة التاريخ السياسي الديني والاوهام التي تختلط بالمثاليات ذات الصلة بمسيرة التطور التاريخي منذ العصور الوسطى الأوربية أو الإسلامية. وللأسف تستغل الدول الكبرى هذه المفاهيم الوهمية الخاطئة بإثارة الفكر الطائفي أو الديني أو المذهبي أو حتى العرقي للتأثيرعلى التطور السياسي في الشرق الأوسط لمصالحها الخاصة وتعيش شعوب المنطقة قادة وحكاماً في أوهام لا نهاية لها ومن ثم في صراعات لا حد لها باسم الطائفة وحمايتها أو الدين والحفاظ عليها أو العرق وحقه في تقرير مصيره ناسين أو متناسين أن التنوع هو أساس خلق البشر وأن التنوع هدفه الإثراء للكون وللعلم وللمعرفة والخبرة والإنتاج وليس الصراع والتنازع بين بني آدم وحواء رغم أن التنافس هو أساس وجوهر التطورالتدريحي المتزن والمعتدل والذي يحقق أهم ثلاث احتياجات لمصلحة البشرية قاطبة وهم الحياة، والأمن، والمعيشة.
ما هو المطلوب إذاً؟ من وجهة نظري كباحث في الشؤون والقضايا الدولية خاصة ذات البعد الاستراتيجي إنه من الضروري العودة للجذور والتي أشار إليها النظام الأساسي لـ «اليونسكو» عندما قال في الديباجة «إن الحرب تنبع من عقول البشر، وفي عقول البشر، ينبغي أن نبني حصون السلام». بعبارة أخرى إنه يجب إزالة الغشاوة من عقول شعوب ومثقفي وقادة دول الشرق الأوسط بوجه خاص وتعليمهم المعاني السياسية وأسس العلاقات الدولية وإن الماضي لا يمكن استعادته لا تاريخاً ولا ثقافة ولا اعتقادات ما لم يتماشى مع مفاهيم العصر والحداثة والعقلانية والحكم الرشيد.
وهنا نقول إن الأمم المتحدة كمنظمة عالمية والتنظيمات الإقليمية والقوى الدولية عليها مسؤولية كبرى في هذا الصدد، فإذا نجحت ولو بنسبة 50% في هذا المجال بإزالة الغشاوة عن عقول الشعوب وقادتها ومثقفيها فإن الأمل في فترة أطول من السلام تزداد، وإذا أخفقت وسارت في ركاب القوى الكبرى، والخضوع لإرادتها، فإن السلام العالمي يمكن أن يستمر لفترة، ولكن بدون السلام الإقليمي، إذ إن المناطق والأقاليم سوف تتحول إلى ميدان صراع إقليمي لأهداف شبه مستحيلة وميدان صراع دولي بحروب الوكالة أو الحروب الاقتصادية وغيرها من حروب الجيل الرابع مثل أعمال العنف والتحريض والثورات والانتفاضات وما شابه ذلك بدعاوى مختلفة، وبعضها جميل وصادق في المظهر، ولكنه مغلوط وفاسد في الجوهر. ولتحقيق هدفنا المرتقب أوغايتنا المنشودة فنحن في حاجة إلى منظمة دولية تتسم بالشفافية من ناحية ويتميز أمينها العام وموظفوها بالشجاعة في قول الحقيقة ونشرها، وليس السير في ركاب مبدأ المواءمة السياسية لمصالح الدول الكبرى عالميا ًأو إقليمياً، فالانبعاثات الحرارية التي تؤثر على التغير المناخي وتخلق ظاهرة الدفيئة، وما يتهدد الأوزون من تلك القضايا التي تحتاج شجاعة أدبية عالية يجب أن يتحلى بها المسؤلون عن التنظيم الدولي، ولا يظلون مغمضين أعينهم، ناكسي رؤوسهم، يعيشون من خلال الركون والاحتماء فقط في لغة التحذير، بل يجب اللجوء للغة الإنذار والعقاب، لأن الخطر لن يتوقف عند حدود دولة أو مجموعة من الدول وإنما ستتاثر به البشرية باسرها. ونفس الشيء بالنسبة لقضايا التنافسية والاحكتار الاقتصادي العالمي أو قضايا النزاعات الإقليمية والطموحات غير الواقعية من دول ترفض مبدأ السيادة الوطنية وتسعى لاستعادة الماضي ولا تنظر للمستقبل، أو حالة الحكام الذين يفكرون بنفس المنطق أو الشعوب والنخب السياسية التي تفكر بمنطق الثورات أو بمنطق التطرف أو استخدام وسائل الارهاب والعنف وسفك الدماء ونشر مفاهيم الكراهية والافتئات على حقوق السيادة للدول الأخرى.
وختاماً، نقول إن الأمم المتحدة ما تزال تفكر بمنظور لغة القوة وإن الحق مع القوة وليس القوة مع الحق. إنها تعيش بمنظور ومبدأ الذين انتصروا في الحرب العالمية الثانية، ولا تعر اهتماماً كافياً للتطورات والتغيرات التي تمت في العالم منذ 1945، ولهذا يسعى البعض للعمل وفقاً لنظريات الهيمنة والسيطرة والتوسع في النفوذ وبناء الأحلاف، وإن كانت تحت مسمى جديد هو الشراكات أو الشراكات الاستراتيجية وهي مصطلحات جميلة في الشكل وغير صادقة في المضمون مثل إطلاق تسمية «معهد النور» على معهد يضم ذوي الإعاقة البصرية، ونحو ذلك، إننا يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا، مدركين لمخاطر استخدام المصطلحات الخادعة، ولهذا فإن أول مبادئ الإصلاح السياسي هو تسمية الأشياء بأسمائها، وكان هذا هو الدرس الأول الذي علمه المفكر الصيني العظيم كونفوشيوس منذ القرن السادس قبل الميلاد، لتلاميذه وقادة المناطق الصينية في عهده.
* مندوب مصر في جامعة الدول العربية
والمندوب المناوب لمصر في الأمم المتحدة
ومساعد وزير الخارحية للتخطيط السياسي سابقاً