إن كنا نريد «التقشف» اليوم، أو لنجملها ونقول «التوفير»، فإن أول ما نقوم به - يفترض - هو التدقيق في عملية المصروفات.
هذا أمر بديهي، لكن الغريب لدينا بأن ما يندرج ويصنف تحت خانة «المصروفات» كثير منه نجده مشاراً إليه في تقارير الرقابة المالية والإدارية تحت وصف «الهدر المالي».
نعم، لدينا هدر موثق في التقارير، وهو يعني ببساطة «سوء استغلال للمال العام» بسبب «سوء إدارة» يعود لأسباب عدة، وهي أسباب لو خضنا فيها لدخلنا كواليس ومتاهات طويلة لتفنيدها وشرحها وتفصيلها، لكننا سنكتفي بالقول إن سوء إدارة المال العام تعني «الفشل» في وضع الاستراتيجيات والخطط وتنفيذها بشكل صحيح، مع ضعف في عملية استقراء المستقبل ووضع السيناريوهات التي قد تحصل وتتسبب بالتالي بأزمات ومشاكل.
نعود للأموال المهدورة، وبعضها يتعلق بمخالفات «متكررة»، يعاد ذكرها وتوثيقها في تقرير تلو تقرير، وطبعاً خلال الأسابيع القادمة سيصدر تقرير جديد، لو تمعنا فيه بالقطع سنجد أن هناك مخالفات مازالت تتكرر.
هذا التكرار يعني هدراً مالياً، والهدر المالي يعني زيادة في اتساع عجز الموازنة، أي زيادة في الدين العام!
نبسط الكلام والشرح هنا، فقط لنوصل فكرة بسيطة جداً مفادها بأنه كان بالإمكان الحفاظ على كثير من المال العام، بل توفير مبالغ طائلة تسند الموازنة وتجنبنا اللجوء لطلب اعتمادات مالية إضافية، لو تم العمل على وقف تكرار هذه المخالفات، ومنع تكرار نفس الهدر المالي.
لسنا نأتي بشيء من جيوبنا هنا، إذ التقارير موجودة، وبعض المخالفات بالفعل تتكرر، وهناك جهات تتكرر فيها المخالفات، رغم نشرها ورغم المطالبة بتصحيحها، لكن المستغرب أنها تتكرر، وكأن هذه الجهات بات لا يهمها ما ينشر عنها سنوياً في تقارير الرقابة، ولهذه الحالة تفسيراتها مثلما ذكرنا هنا قبل أيام، حين تصل المسألة لدرجة «انعدام الإحساس» بالتقارير ومضمونها، وبأسلوب «ليكتبوا ما يريدون، ونحن نفعل ما نريد»، وذلك بسبب غياب المسائلة والمحاسبة ومبدأ «العقاب» بشأن الإخلال بالمسؤوليات الناتج عنه هدر في المال العام.
ليست هذه الفكرة هنا، بل نحن بصدد الإشارة لضرورة دراسة هذه المخالفات المتكررة ورصدها وجدولتها وإعداد نسب معنية بها، لتتضح لنا في النهاية الأرقام النهائية التي تبين حجم الهدر المالي الناجم عن هذه المخالفات، وإجمالي المبلغ الذي كانت الدولة لتوفره لو صححنا الأوضاع، ولو أوقفنا نفس الأخطاء، ولو قيمنا بعض الفعاليات وأوقفنا عديم الربحية والعائد منها.
المقصد أننا اليوم نعايش وضعاً صعباً، فاهتزاز الاقتصاد مدمر لأي مجتمع، واختلال الميزان المالي مقلق ويحول لك أحلام المستقبل إلى كوابيس، والحلول التي نراها للأسف أغلبها يركز على إيجاد حلول يكون «المواطن» هو اللاعب الرئيس فيها. فمشكلة العاطلين سنعالجها بفرض ضريبة الـ 1? التي يدفعها المواطن، وسد الدين العام سنجد له حلولاً منها إعادة توجيه الدعم القاضي برفع أسعار السلع على المواطن وتعويضهم بمبالغ زهيدة لتتوفر لنا مبالغ مليونية أخرى نستفيد منها في سد ثغرة لم تكن تحصل إلا بسبب سياسات غير صحيحة وأشخاص لم ينجحوا في معالجة المشكلة بل زادوها.
لا نريد المواطن أن يدفع مزيداً من الضرائب في وقت هو يطالب فيه بتحسين أوضاعه ومزيداً من المكاسب، المواطن ليس مسؤولاً عن فشل بعض المسؤولين وراسمي السياسات، وليس مسؤولاً عن الأزمة المالية وسوء إدارة المال العام، بالتالي يكفي إشراكه في عملية دفع الضريبة.
لابد من تصحيح المسارات بشكل واقعي عبر محاسبة المقصرين وعدم إهمال ما تتضمنه تقارير الرقابة، والأهم إسناد المسؤولية للأكفاء والمؤهلين القادرين على إيجاد الحلول، إذ مللنا ممن يأتون ليزيدوا الطين بلة.