تحتفل مصر كل عام بذكرى نصر أكتوبر 1973، والذي وافق العاشر من شهر رمضان آنذاك. ولقد عبر هذا الانتصار عن ثلاث حقائق هي: الأولى أن مصر وسوريا والدول العربية ليست جثة هامدة بل هم شعوب تتسم بالحيوية والإباء والقوة والشهامة والتضحية من أجل أوطانهم، والثانية أن الجيش الإسرائيلي ليس بالأسطورة التي روجت لها إسرائيل بأنه الجيش الذي لا يقهر، وأثبت المصريون في تلك الحرب أنهم قادرون على ردعه وهزيمته، بعد أن هزمهم في عام 1967، وبذلك أثبتوا أن الحرب يمكن أن تكون سجالاً، أما الثالثة، فهي بدء الأمل في حدوث تغير استراتيجي في المنطقة علي أساس السلام المبني على القوة التي يمكن أن تردع العدو والتي لا تفرط في الأرض العربية وفي مقدمتها الأرض المصرية، وكان يمكن أن تكون الإنجازات أكبر لو سمع عرب ذلك الزمن نداء القائد المصري الذي أثبت بطولته في الحرب والسلام. ولمن لا يعرف قدر ذلك الرجل فإنني أدعوه أن يقرأ خطابه في الكنيست الإسرائيلي، وأن يتابع مفاوضاته مع الإسرائيليين، من أجل مصر ومن أجل التراب العربي وفي مقدمتها الحكم الذاتي آنذاك للفلسطينيين، ولكن هكذا شاء الله أن يأبى العرب ألا يسيروا وراء مصر رغم أنها وضعت الطريق الصحيح لاستراتيجية الحرب والسلام بشجاعة.
ولقد عبرت مصر من خلال حرب أكتوبر 1973، تلك العقبة الكبرى المتمثلة في خط بارليف على الجانب الشرقي من قناة السويس، والتي كتب عنها فيلسوف الهزيمة ومؤلف مصطلح النكسة، مقالاً بعنوان «تحية للرجال»، ولم يكن الاسم دليلاً حقيقياً على التحية بل أنه كان يستهدف نشر اليأس والإحباط فركز على مقولات إسرائيلية تروج لصعوبة اختراق خط بارليف، ومن استحالة عبور قناة السويس الحاجز المائي الضخم والذي روجت إسرائيل أنه سوف يشتعل ناراً إذا حاول أي مصري عبوره وأدى هذا المقال لإثارة المصريين وتقوية عزيمتهم، خلافاً لمنطق الإحباط واليأس الذي حاول البعض إثارته بترديده أقوال الاستخبارات الإسرائيلية ضد الجيش المصري والشعب المصري، لبث الإحباط وإضعاف الروح المعنوية. وقد نجح المصريون بفضل الله سبحانه وتعالي وبعزيمة الجنود وإرادة القيادة في اتخاذ القرار السليم، رغم كل التحديات والعقبات، ورغم أن الموقف الدولي لم يكن مواتياً لمثل تلك الحرب، ولكن الروح المعنوية كانت مرتفعة للغاية، والشعب كان يساند جيشه دفاعاً عن التراب الوطني، وقد ابتكر مهندس مصري فكرة استخدام الخراطيم الكبيرة للمياه، لتدمير خط بارليف، وبالفعل نجح الجيش المصري في اختراق خط بارليف الذي كانت تفتخر به إسرائيل ونجح في عبور قناة السويس، وسيطر على الإسرائيليين الذهول، كيف يتم ذلك كما نجح السوريون في اقتحام الجولان المحتل ولكن إلى حين.
وقد انهزم دعاة التخاذل والجبن ومروجو اليأس، ولم يصدقوا أنفسهم، وكان النصر حليف مصر وسوريا والسعودية، التي وقف مليكها الراحل فيصل بن عبد العزيز، رحمه الله، موقفاً مشرفاً من استخدام البترول كسلاح في المعركة، كما كان موقف الرئيس الجزائري هواري بومدين، مشرفاً وعروبياً أصيلاً، بخلاف قادة آخرين لا مجال لذكرهم أو ومواقفهم فهذا دور المؤرخين.
ولقد كانت إرادة الله غالبة في شهر رمضان المبارك، الذي نصر الله فيه رسوله محمد بن عبد الله في غزوة بدر، رغم قلة عددهم مقارنة بعدد مشركي مكة، وفرحوا بنصر الله تعالى، لأن الله أرسل ملائكة تحارب إلى جانب المسلمين. كذلك ادخل الله الرعب والغفلة على الإسرائيليين وركنوا في غرور لقوتهم، فألحق بهم الجيش المصري الهزيمة النكراء في الأيام العشر الأولى من الحرب، واستغاث الإسرائيليون بولي أمرهم وحاميهم الولايات المتحدة، التي أقامت جسراً جوياً لنقل الأسلحة الحديثة لإسرائيل في ارض المعركة في سيناء الحبيبة مباشرة، وقد تمكن بعض أفراد القوات المصرية من الاستيلاء على بعض تلك الأسلحة، وهي الآن في متحف بانوراما حرب أكتوبر بالقاهرة، ولما شعر صاحب قرار الحرب الشجاع بخطورة الموقف وافق على قبول قرار مجلس الأمن الدولي، وقبل وقف إطلاق النار، والدخول في تفاوض عبر مراحل حتى انتهى الامر إلى مبادرة السلام من ذلك القائد البطل لأن الحرب ليست لعبة سهلة، ولم يكن السلاح كافياً ولا المساندة الدولية، وعندما أدرك صاحب قرار الحرب الرئيس الراحل أنور السادات، أوقف بشجاعة القتال حقنا لدماء جيشه وشعبه. وليس هذا المقال المختصر مجالا لتحليل الحرب وبطولاتها، فهناك مجلدات أصدرها الجيش المصري في هذا الصدد عبر السنين، من خلال دراسات مستفيضة وموثقة، ضمت شهادات العديد ممن قاتلوا ببسالة وشجاعة، وما يهم في هذا الصدد التأكيد على ثلاثة أمور:
الأول: إن جيش مصر البطل هو جيش وطني لشعب عظيم، وقد أكد هذا الرسول الكريم عندما قال لأصحابه «إذا فتح الله عليكم مصر فخذوا منها جندا فهم خير أجناد الأرض، وهم في رباط إلى يوم القيامة». وصدق رسول الله فقد حارب الجيش المصري بقيادة البطل المغوار صلاح الدين الأيوبي الكردي الأصل، المسلم دينا، المصري حاكما وربما مواطنا، ضد الصليبيين، كما حاربت مصر ضد المغول وحاربت ضد الغزاة العثمانيين، ولكنها انهزمت في الحالة الأخيرة لرفع هؤلاء اسم الإسلام خديعة من الطغاة ضد جيش مصر وشعبها، الذي هو من أكثر الشعوب إيمانا بالله، وهو إيمان عميق الجذور منذ الفراعنة، ومنذ خلق الله مصر وشعبها.
الثاني: وصية النبي لأصحابه بقوله «إذا فتح الله عليكم مصر فاستوصوا بقبطها - وفي رواية بأهلها - خيرا فان لي فيهم نسبا وصهرا». وكما هو معروف ان النبي عليه الصلاة والسلام، من سلالة إسماعيل بن إبراهيم بن هاجر المصرية، كما انه عليه الصلاة والسلام تزوج مارية القبطية، وأنجب منها ابنه الوحيد إبراهيم، ولكن إرادة الله إن يتوفى في صغره، وحزن عليه النبي الكريم ودمعت عيناه، وقال «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون». هكذا الإيمان الصادق مهما واجه من صعاب يزداد صاحبه استسلاما لإرادة الله تعالي.
الثالث: إن شعب مصر وقف دائما وراء جيشه سندا، كما إن جيشه كان دائما وثيق الصلة بالشعب، مدافعا عنه ضد الأعداء من الخارج والداخل، على حد سواء. ولنا في ثورة أحمد عرابي وتصاعد مطالبها في مواجهة الخديوي، وثورة جمال عبد الناصر عام 1952، وثورة عبد الفتاح السيسي في 30 يونيه 2013، بل من موقف الجيش من ثورة 25 يناير 2011، وغير ذلك من المواقف العديدة التي تدل بلا لبس على التناغم العملي والمستمر بين شعب مصر وجيشه، وهو تناغم متبادل من أجل المصلحة العامة في مواجهة أية مشاكل أو طغيان أو عدوان على مصر، أو شعبها وأمتها العربية وعقيدتها الإسلامية السمحاء، من المتربصين في مختلف العصور. ولقد أثرت حرب أكتوبر في سياسة مصر الخارجية، وتناولت ذلك في كتابي المعنون «أثر حرب أكتوبر على السياسة الخارجية والحياة العامة»، والذي اشتركت في تأليفه مع الدكتور مجدي المتولي وصدر منذ أكثر من عشرين عاماً. والتغير الذي حدث في السياسة الخارجية هو بالتوجه نحو استراتيجية العمل من أجل السلام الدائم والشامل في المنطقة، والذي أصبح بعد ذلك خياراً استراتيجياً لجميع العرب.
وختاماً، نقول تحية لشعب مصر العظيم، وجيشها البطل، وقادتها المؤمنين بوطنهم عبر العصور، وشكراً للمواقف العربية الشجاعة، وخاصة موقف خادم الحرمين الشريفين، المغفور له بإذن الله، الملك عبد الله بن عبدالعزيز، في مساندته لمصر في المحن التي تعرضت لها إعمالاً لمبدأ التضامن العربي، كما وقفت مصر دائماً لمصلحة قضايا أمتها العربية والإسلامية في مختلف الأحوال، ولكن باستراتيجية وفكر واع، وليس اندفاعي أو عدواني أو مصلحي. فالقيادة دائماً مسؤولية، والريادة دائماً معطاْة، والواقع اقوى وأهم من الشعارات، والتحديات أحيانا أكبر من الإمكانيات. ولكن التفكير خارج الصندوق كما حدث في حرب أكتوبر كان ومازال دليلا على التفكير المصري الاستراتيجي والمؤيد من الأشقاء العرب قادة وشعوبا. وشكرا لصاحب القرار في الحرب والسلم، وهكذا الشجاعة الأدبية، مهمة في مختلف القرارات والمواقف في المراحل الفاصلة في تاريخ الأمم والشعوب. ونقول، حمى الله مصر والعرب والمسلمين من دعاة الفتنة والجهاد الكاذب والتشويه للدين السمح المعتدل.