مسؤوليات خطيب المنبر الحسيني كثيرة وكبيرة، والسبب هو أنه يستطيع أن يوجه مستمعيه إلى ما يريد ويمنعهم عن ممارسة ما يراه سالباً، فالرسالة هنا توجه من طرف واحد هو الخطيب ويتلقاها المستقبل من دون أن تكون لديه فرصة الرد والمناقشة، فهذا الحق لا يتوفر في مثل هذه الحالات. في المآتم كما في خطبة الجمعة بالمساجد يتوفر مرسل واحد يتحكم في كل شيء، ومستقبلون كثر يتلقون الرسالة فيقبلونها أو يرفضونها، ولكن من دون أن يكون لهم حق الرد أو التعليق بشكل مباشر.
الخطيب الحسيني لا يستطيع أن يغير في الثوابت التي يعرفها غالباً المستمعون إليه، فهو لا يستطيع أن يغير في الروايات المعتمدة وما جرى في كربلاء، ولا يستطيع أن يبحر بعيداً في التعليق عليها، ولكن فرصة إبداء رأيه في أمور مجتمعية وغير مجتمعية تظل متاحة له، فيقول ما يريد قوله من دون تحفظ، وهنا مكمن الخطورة.
والخطباء الحسينيون في أيامنا هذه نوعان، نوع -وهو الأغلب- يهتم بالتركيز على ما جرى للإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء ويحاول أن يستفيد من الروايات في توجيه المستمعين إلى الإعلاء من شأن آل البيت الكرام والاقتداء بهم، ونوع يحرص على توظيف الرواية بإسقاطها على ما يجري في أيامنا هذه فيدخل -شاء أم أبى- في الموضوعات السياسية والتي يفترض أن المجال ليس مجالها. هؤلاء الخطباء عددهم قليل ولكن تأثيرهم كبير، ويحظون بسبب تعرضهم لتلك الموضوعات بجمهور أكبر، وهو ما يدفعهم عادة إلى زيادة الجرعة كي لا يخذلوا جمهورهم وكي لا يفلت جمهورهم عنهم.
المناسبة دينية، وإقحامها في السياسة أو إقحام السياسة فيها ظلم لها وللمهتمين بإحيائها، وليس من المقبول منطقاً فعل ذلك لأنه باختصار يحرف المناسبة عن مسارها فيضيع الهدف الرئيس من إحيائها.
لا علاقة لخطيب المنبر الحسيني بالسياسة، هذه حقيقة ينبغي أن يعلمها جيداً كل من تتاح له فرصة ارتقاء هذا المنبر الذي يعبر اسمه عنه. دور الخطيب هنا هو إحياء المناسبة وتوجيه المستمعين نحو الإيجابي من الأمور والابتعاد عن السلبي منها، أي بما يتيح لهم فرصة الاقتداء بالحسين الشهيد وسيرته العطرة، فالسياسة لها منابر أخرى ومناسبات لا تنتهي والحديث فيها حق يكفله الدستور وينظمه القانون لكن ليس مكانها المآتم والمنبر الحسيني.
القانون والعرف والمنطق كلها أمور تمنع الخطيب من الدخول في مساحة السياسيين وتحويل المنبر الحسيني إلى منبر سياسي وتحريضي، خصوصاً في هذه المرحلة الحساسة والخطيرة التي تمر بها البلاد والمنطقة، والتي لا يستغنى فيها عن الدور الإيجابي الذي يمكن أن يمارسه خطيب المنبر الحسيني. هذا لا يعني عدم تناول الخطيب لمسائل كالثورة مثلاً، فالحسين كان ثائراً، ولا يعني عدم الحديث عن الظلم، فالحسين ثار على الظلم وانتصر للحق وللدين، هذا كله وارد في الخطب ولا تحفظ عليه، التحفظ هو على توظيف كل ذلك في عملية التحريض ضد السلطة أو الآخرين، أياً كان أولئك الآخرون.
المنبر الحسيني منبر خير وعطاء، وينبغي من الذين يتشرفون باعتلائه توظيف قدراتهم وما يمتلكونه من علم ومعرفة في توحيد كلمة المسلمين وحثهم على فعل الخير وحب الوطن، والابتعاد عن كل ما يسيء للناس وللوطن، وبما أن المناسبة دينية بحتة لذا ينبغي منهم أيضاً ألا يسمحوا لأنفسهم بالابتعاد عن روحها وحرمان المتعلقين بها من حقهم في إحيائها، عدا أن تناول الخطيب لموضوعات سياسية أو التحريض بشكل غير مباشر لا يدخل في باب الشطارة أو الإبداع لأن فيه ظلماً للمناسبة نفسها.