الدهاء الروسي هو عنوان تدخل روسيا في سوريا، فقد تأخرت روسيا كثيراً في دعم حليفها بشار الأسد وفي حماية النظام السوري من الانهيار. وتوقع كثيرون أن روسيا أياً كان غضبها من الاستفراد الأمريكي بالمنطقة لن تغامر بجنودها في مواجهة عسكرية محسوبة لخسارتها حتماً. ولكن اتضح جلياً أن روسيا كانت تراقب وتدرس وتحلل وتخطط وحين قررت التدخل قبل عدة أشهر، كما ذكر وزير الخارجية السوري وليد المعلم والعديد من المسؤولين الإيرانيين، فإنها مهدت لتدخلها وأعدت له عدتها جيداً.
العدة الأهم في التمهيد للتدخل الروسي كانت عدة دبلوماسية وإعلامية بامتياز؛ لأن روسيا من حيث الاستعدادات العسكرية ليست بحاجة لبناء قدراتها من جديد. ولكن روسيا كان عليها، في خطابها للشعوب العربية تحديداً، أن ترمم صورتها التي تهشمت بفعل التاريخ المنكسر السابق لها في الثلاثين عاما الماضية. فروسيا هي وريثة الاتحاد السوفيتي الذي تورط في حرب «إيديولوجية» في أفغانستان تلك الحرب التي جمع لها الإسلاميون للجهاد من كل أقطار الأرض بحجة أن أفغانستان هي بلد مسلم يحتله الشيوعيون الملحدون الذين سيغيرون ملتهم. تلك الحرب التي تركت آثاراً كارثية على أفغانستان أولاً، وحولتها إلى وكر للإرهاب الدولي ووصلت أصداؤها للوطن العربي، ثانياً، وجعلتها منطقة خلايا لامتدادات الحركة الإرهابية الأم في أفغانستان، وهي تنظيم القاعدة الذي فرخ تنظيم الدولة «داعش» وجبهة النصرة وغيرها من النسخ الإرهابية.
من الناحية الدبلوماسية شهدت روسيا حجيج وفود عديدة لها من بينها وفود خليجية، ولكن العلاقات الأكثر قرباً كانت مع مصر وتحديداً مع الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي يواجه حرباً ضروس مع الإرهاب في بلاده وعلى حدودها. هذه العلاقات الدبلوماسية الدافئة تكللت بتأييد مصر للضربات العسكرية الروسية في سوريا وهو تأييد مهم قد يكون له ما بعده فقد تستعين مصر، يوماً، بالجيش الروسي لحسم الإرهاب المتعاظم على حدودها في ليبيا، مثلاً.
أما من الناحية الإعلامية، فالموضوع أكثر كثافة، فقراءة الرسائل الإعلامية الدعائية الروسية أمر ممتع حقاً!! فقد حول الإعلام الروسي الرئيس فلاديمير بوتين إلى نجم عالمي فهو وإن احتفل بعيد ميلاده الـ 63 قبل أيام، والذي رافقته احتفالية إعلامية شعبية عالمية كبيرة على شبكات التواصل الاجتماعي، إلا أنه رجل قوي يمارس الرياضة العنيفة من حمل الأثقال ولعب المصارعة والسباحة، وليس كما يفعل الزعماء الأمريكان من ملاعبة كلابهم ولعب كرة التنس أو الغولف!! وهو يجيد فنون الحرب كافة وقيادة الطائرات الحربية، وهو شخصية شعبية تتجول في الأحياء الشعبية الروسية. وهو في آخر فيلم بث له على وسائل الإعلام الروسية يدعم الفنون والغناء والموسيقى. إنه شخصية مركبة تركيباً كيميائياً خاصاً يحمل خصائص هرقل القوي وخصائص روبن هود الشجاع وخصائص الماركسيين الشعبيين المثقفين. إنها صناعة إعلامية جعلت من بوتين، رجل المخابرات البارع، شخصية جذابة في ظل وجود زعماء خافتي الظل مثل أوباما. وهو ما سيجعل من مهمة صانعي «الانتخابات الأمريكية» أكثر صعوبة في البحث عن، أو في صنع، شخصية «جذابة» تنافس الثعلب الروسي بوتين.
الجانب الإعلامي الدعائي الآخر الذي ركزت عليه السياسة الروسية هو الجانب العقائدي. فقد بثت وسائل الإعلام الروسية مشهد صلاة عيد الفطر لهذا العام في العاصمة الروسية التي جمعت حشود غفيرة وعشرات الآلاف من المسلمين الذين اكتظت بهم شوارع موسكو، ونقل المشهد صور آلاف الجنود الروس الذين ينظمون الصلاة الحاشدة ويحمون سلامة المصلين المسلمين، والمشهد الآخر هو افتتاح المسجد الكبير في موسكو في صلاة عيد الأضحى وانطلاق تكبيرات العيد التي ضجت بها موسكو كأي عاصمة إسلامية تقليدية. المشهد الثالث هو تداول بعض وسائل الإعلام ومنها فضائية «روسيا اليوم» لصور علبة زجاجية صغيرة يقال إنها تحوي شعرة من رأس النبي محمد صلى الله عليه وسلم. هذه الكثافة الدعائية في الجانب الإسلامي كفيلة بأن تكسر أي حاجز نفسي بين المسلمين وبين روسيا الجديدة وكفيلة بالتصدي لأي استخدام للقصة الأفغانية أو الشيشانية التي بدأ العرب يشمئزون من نتائجها الإرهابية. والمشهد الأخير هو موافقة الكنيسة الروسية على التدخل الروسي في سوريا ومباركتها للجيش. فروسيا اليوم تطرح نفسها دولة «من أهل الكتاب» الأرثوذكس وسوف تتدخل بمسوغ لحماية مسيحيي الشرق الذين فرطت فيهم القواعد الأمريكية المنتشرة في العراق وسوريا وتركتهم للتهجير والإبادة والاسترقاق، وهي مع هذا ليست في حالة عداء مع المسلمين، روسيا تطرح نفسها دولة عقلانية معتدلة منوعة متزنة عقائدياً وإيديولوجياً.
تدخلت روسيا في الوقت الدقيق، حين بدأ الضمير العربي والإسلامي يقلق من تفشي «داعش» والجماعات الإسلامية في أكثر من دولة عربية رغم وجود تحالف دولي قوي لضرب تلك الجماعات. تدخلت روسيا بإرثها في دعم الجيوش العربية في حربها ضد إسرائيل وفي دعمها لحركة التنمية في الدول العربية التي كانت اشتراكية. تدخلت في الوقت الذي وصل كثيرون إلى قناعة أن أمريكا قد التهمت المنطقة بأسرها وأننا قاب قوسين أو أدنى من الخضوع للمشروع الأمريكي. تدخلت روسيا في الوقت الذي دخلت فيه كثير من الدول العربية والعالمية في أزمات اقتصادية بسبب تدهور أسعار النفط. تدخلت روسيا وقد صارت الصين أكثر تصميماً على التحالف معها ضد الاحتكار الأمريكي، وقد صارت الهند أكثر قناعة بحماية تنميتها من الاستئثار الأمريكي، وقد صارت البرازيل وفنزويلا وكوريا الشمالية في صفها وخندقها. تدخلت روسيا معلنة أنها ستقضي على الجماعات المتطرفة في غضون أربعة أشهر في الوقت الذي قالت فيه أمريكا إن الحرب على «داعش» قد تستغرق عشرين عاماً!! إنه تدخل احترافي، ولم يكن الصمت طول أربع سنوات الماضية سوى تخطيط على نار هادئة،
شخصياً لست من أنصار أي تدخل أجنبي في المنطقة، وأرفض أن تتحول الجغرافيا العربية إلى ساحات حربية يتقاتل فيها أصحاب المصالح تارة بالوكالة عن طريق ممثلي تلك الدول في المنطقة، وتارة بصورة مباشرة مثل دخول الجيش الروسي أتون الحرب في المنطقة. شخصياً أؤمن أن لا أحد سيتدخل حباً في العرب السمر وحباً للصحراء العربية والثقافة العربية والكرامة العربية، بل سيتدخل الجميع تقاسماً للجغرافيا العربية والثروات العربية. ولكن هذا هو واقعنا الذي خرج عن سيطرتنا، وهكذا صار دورنا الوحيد في هذا الواقع، أن نصير مراقبين ومحللين لما يحدث فقط.