منذ اندلاع الثورة الشعبية العارمة ضد نظام طاغية الشام، وأركان حكمه وحزبه، تخندقت روسيا الشيوعية ضد إرادة الشعب السوري، وعملت طوال السنين المنصرمة، على تثبيت دعائم حكمه، لغاية ربما بدأت تتكشف أوراقها الآن، وفي نهج يختلف تماماً عما هو معروف عن تلك الدولة وسلفها المقبور «الاتحاد السوفيتي»، في عدم اكتراثهم لمصير حلفائهم، عندما تدنو ساعة زوالهم، خصوصاً إذا علموا أن سقوطهم لا يخسرهم الكثير، وأن بقاءهم لم يعد يحقق لهم المنفعة المرجوة.
وأكثر من اكتوى بنار غدرهم هم المسلمون والعرب وقادتهم ومواقفهم من الحروب التي اندلعت مع الكيان الصهيوني، وتنصلهم من مواثيقهم وعهودهم في اللحظة الأخيرة معروفة للقاصي والداني.
فكثيراً ما عولت قيادات وأنظمة وأحزاب على دعمهم، ثم يستفيقون وقد باعوهم غير مأسوف عليهم بأبخس الأثمان، لقاء وعد أو صفقة حقيرة مع أمريكا وبعض حلفائها.
لم يسجل أن توافق الروس مع الغرب في وجهة نظر متحدة سوى دعمهم للكيان الصهيوني، أما غالبية النزاعات القائمة فعهدنا بهم أن يكون لهم مواقف ظاهرها المخالفة، أما باطنها فمستتر وراء الكواليس وتحكمها المصالح والصفقات. ومتى ما حصل تباين في وجهات النظر وتضاربت المصالح «زمجر» الدب الروسي غاضباً، فتسارع العالم الغربي لإلقامه وجبة ليسد بها نهمه.
وكما هو معلوم فإن معاهدة «سايكس بيكو» المشؤومة التي مزقت العالم العربي، أشرفت على انتهاء صلاحيتها، وما تلك الفوضى الخلاقة و»الهيجان» والحروب المستعرة، التي تجتاح المنطقة، والمجاميع الإرهابية التي انتشرت في كل أرجاء الوطن العربي، وسقوط دول، واختلال عروش، إلا مقدمة لتوقيع حفل اختتامها، والبدء بوضع اتفاقية جديدة، يتقاسم فيها أصحاب النفوذ مصالحهم، ولكن كل ذلك التحضير والتدبير كان بتخطيط وتنفيذ أمريكي صهيوني بامتياز، وتم بمعزل عن الدب الروسي، لكنه في اللحظات الأخيرة، تنبه لذلك وهرول مذهولاً ومسرعاً دون موافقة أممية أو تشاور، وحط في أرض الشام ليقلب الطاولة على رؤوس الغرب، وليأخذ دوره بين الكبار.
فظاهر التحرك الروسي هو محاربة تنظيم الدولة «داعش» والإرهاب، وتثبيت أركان النظام، لكن ما بين السطور هو قطع الطريق على أمريكا والغرب، وعدم السماح لهم برسم الخارطة الجديدة من دونه.
وتنبهت للعبة الكبيرة التي خرجت عن الكتمان والسيطرة، كل من الصين، وكوريا الشمالية، وفرنسا، وبريطانيا، بل حتى اليابان، وقبلها إيران، وستتبعها دول أخرى، فكل دولة شرعت بتجييش أساطيلها، والتحرك صوب الشام، وكأنها حرب كونية تنتظر ساعة الصفر.
أما الحركات البهلوانية والتي يتعمد الروس فيها إطلاق الصواريخ بعيدة المدى، وطلعات الطيران المكثفة، والقصف العشوائي الذي يستهدف الشعب السوري وتجمعات وأهداف للمعارضة دون «داعش» - ربيبة أمريكا وحبيبة إيران - والخرق المتعمد للأجواء التركية، ما هو الا استعراض وإبراز للعضلات، وهو أمر مفضوح لا يحتاج إلى فك طلاسمه.
فلا يتوهم أبداً طاغية الشام أن الروس وغيرهم قدموا للشام محبة في زرقة عينيه، أودفاعاً مستميتاً عن حزبه، فيغط في الأحلام الوردية، فما هو إلا ورقة ستحترق قريباً جداً مع اندلاع أول خلاف وتقاطع للمصالح.
فلن تتطاحن القوى العالمية أبداً لأجله، لكن شاءت الأقدار أن تكون أرض الشام مسرحاً للصراع وتصفية للحسابات، ولتختبرعليها كافة أنواع الأسلحة الفتاكة من صواريخ ومضادات وسلاح الجو، وما هو المانع إن كانت الضحايا هي شعوب المنطقة!!
ومن الخطأ الاستراتيجي القاتل أن تتعجل بعض القيادات العربية في التخندق والاصطفاف مع أطراف الصراع شرقية أو غربية، حيث إن الحرب التي ستدور رحاها هناك هي ليست حربنا، رغم أنها ستقع في عقر دارنا، وإن كان لابد من اتخاذ موقف فيتوجب تشكيل حلف مستقل أوالاستفادة من نواة التحالف العربي المشكل بقيادة السعودية.
آفة الأفراد والقادة والأمم أنهم لايتعظون بغيرهم، ولايحسنون قراءة التاريخ والنكبات، فلو قلبوا أوراق التاريخ أو استشاروا حكمائهم لما أقدموا أبداً وتورطوا في تحريك أساطيلهم ولمروا مسرعين غير ماكثين في تلك الديار، فلقد تورط من قبلهم هولاكو والتتار والفرس في غزوات وحروب طاحنة، أخرجتهم من «الباب الخلفي» إلى مزبلة التاريخ.
وما انكسار وانهيار سلفهم «سيء الصيت»، الاتحاد السوفيتي، على أيدي المجاهدين في أفغانستان، منهم ببعيد. وما تجرعته أمريكا في العراق وتحطيم عظمتها الزائفة والذي كان لها درس جعلتها تفكر ألف مرة بإقحام نفسها في أي حرب جديدة، وانسلت وأوكلت بمكر الكثير من ملفاتها لتدار من قبل ميليشيات وتجمعات إرهابية ومرتزقة.
وأخيراً، يحاول الروس اليوم أن يقفزوا على الحقائق ويسوقوا تهورهم وحربهم اليوم على أنها حرب دينية، فسارع قساوسة الأرثوذوكس بمباركة وتعميد الجنود الروس المتوجهين إلى أرض الشام ووصفوا حربهم المرتقبة بالمقدسة!!
فمتى كانت روسيا الشيوعية تعير اهتماماً للمسيحية بكل مذاهبها؟! لكنها طريقة ساذجة لإيهام الشعوب المسيحية والغربية منها على وجه الخصوص، ودغدغة مشاعرهم، وكسب تعاطفهم، وللضغط لاحقا على حكوماتهم. سيستمع العالم مجبراً للأوركسترا الروسية الصاخبة ومن فوق مسرح تدمر المحطمة أرضيته وبعدة تنقلات غير متناغمة أعلاها نبرة هي الحصول على نفوذ وحصة مرضية من الكعكة التي تعد في المطبخ الدولي مع التعهد بالحفاظ على استقرار الكيان الصهيوني وإبعاده عن كل المخاطر وتتخللها أهداف جانبية بالقضاء على جميع معارضي النظام، ثم تضييق الخناق على حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وإضعاف دوره وتحجيمه، وليس بعيداً عن أهدافهم الملف الخليجي ومحاولة خلط الأوراق وفتح جبهة جديدة للصراع، وتخفيف الضغط عن إيران وخسائرها المتلاحقة في اليمن.
فالمنطقة اليوم أشبه بمائدة طعام تجمع عليها اللئام، وأسفل منهم بركان يتطاير شرراً وفي أي لحظة قد يثور حمماً ويبتلع الجميع.