يعيد التدخل الروسي في سوريا إلى الذاكرة التدخل المشابه للاتحاد السوفيتي في «النموذج الأب» أفغانستان. والأجيال التي لم تعايش تفاصيل الحرب الأفغانية في نهاية السبعينات أو من لم يطلع بدقة على قصة الحرب، يعتنقون فرضية أن أفغانستان كانت دولة طبيعية قدم السوفيت لاحتلالها ومحاربة الإسلام فيها ونشر الفكر الشيوعي وعقيدة الإلحاد في تلك الدولة المسلمة. بينما بقراءة التفاصيل فإن الموضوع لن يخرج عن كونه حرب مصالح دولية وتدخل أطراف كثيرة في مجريات الصراع الداخلي في ذلك البلد، لم يدفع ثمنه حقيقة غير الشعب الأفغاني المسكين.
في واقع الأمر إن تفكيك تعقيدات الوضع السياسي فترة تدخل الاتحاد السوفيتي في أفغانستان أمر يحتاج دراسة وتتبع لجذور أصل الخلافات وأصل الفئات المشاركة في الحرب الأفغانية. فمن جهة أولى، انزلقت أفغانستان إلى الحرب في مرحلة تحول سياسي تغير فيه النظام من الملكي إلى الجمهوري، ثم تصدر فيه الحزب الماركسي المدعوم سوفيتياً رئاسة الحكومة والجمهورية، ثم وقوع عدة انقلابات سياسية واشتداد حركة الجماعات الإسلامية المناهضة للحكم. ومن جهة ثانية، مجاورة أفغانستان لحدود دول إما تشهد خلافات سياسية كالخلاف الحدودي بين السوفيت والصين، أو دول تشهد هي الأخرى اضطرابات وتحولات سياسية مثل إيران التي انتهت بها الاضطرابات إلى سقوط امبراطورية الشاه وتأسيس الجمهورية الإسلامية، أو دول ذات علاقات استخباراتية عالية مع دول كبرى مثل باكستان التي يعرف الجميع حجم التنسيق الاستخباراتي فيها مع بريطانيا وأمريكا. وكل تلك الدول كان لديها مصالح في الهيمنة على نظام الحكم في أفغانستان أو اقتطاع شيء من الموارد الأفغانية. وكل تلك الدول تدخلت وبقوة في الحرب الأفغانية، غير أن السوفيت تميزوا وحدهم بدخول جيش «الأربعين» الروسي الأراضي الأفغانية لدعم النظام الحاكم الحليف لهم.
والحقائق التي يجب تصحيحها هي أن الاتحاد السوفيتي لم يقم باحتلال أفغانستان، وأن «حكاية» الاحتلال هي تضخيم أمريكي وغربي بامتياز لخلق حالة عدائية ضد خصمها السياسي والاقتصادي والعسكري الذي قررت وعملت على إسقاطه وتفكيكه كي تستفرد بحكم العالم. ما حدث هو أن الاتحاد السوفيتي قام بتدخل عسكري مباشر بناء على طلب الحكومة الموالية له، التي كانت تعاني من الضعف السياسي وتذبذب التأييد الشعبي لها وعجزها عن السيطرة على كافة التراب الأفغاني. وكانت تخوض مواجهات عسكرية ضد الاضطرابات التي كانت تقودها بعض الجماعات وعلى رأسها جماعات القائد «أحمد شاه مسعود». وقد تورط الاتحاد السوفيتي بهذا التدخل لأن «جيش الأربعين» الروسي لم يكن معتاداً على القتال في هذه الجغرافيا الصعبة، كما أن أنصار مسعود قاتلوا بتكتيك حرب العصابات التي تستنزف الجيوش النظامية، وخصوصاً الجيوش الأجنبية، عدا أن أحمد شاه مسعود كان مدعوماً بسخاء من باكستان وأمريكا وبريطانيا ومزوداً بجيوش جرارة من المتطوعين من كافة أقطار الأرض تحت ذريعة الجهاد الإسلامي ضد الاحتلال الشيوعي الملحد للبلد المسلم أفغانستان.
ويختلف كل فريق في سرد مسوغاته لخوض الحرب في أفغانستان، وسيختلف في سرد مجريات المعارك. لكن التاريخ يسجل أن الاتحاد السوفيتي خرج مهزوماً منكسراً من أفغانستان مخلفاً وراءه نظاماً جمهورياً وبعض ملامح دولة. وأن أول رئيس يحكم أفغانستان بعد الخروج السوفيتي هو برهان الدين رباني. وأن كافة الجماعات التي «جاهدت» ضد الاحتلال الشيوعي تقاتلت فيما بينها على الحكم في حرب أهلية طويلة دمرت ما بقي من ملامح الدولة. وانتهى صراعهم باغتيال كل من أحمد شاه مسعود، وبرهان الدين رباني، المدعومين أمريكيا وباكستانياً على يد أطراف أخرى من المدعومين أمريكياً وباكستانيا هم أسامة بن لادن وجماعة طالبان، ومن ثم استيلاء جماعة طالبان على الحكم وتوطين جماعة بن لادن «القاعدة» في أفغانستان وتحول أفغانستان إلى إمارة متخلفة ومعسكر لتدريب الإرهابيين الذين تحولوا إلى أدوات لتدمير باقي الدول العربية والإسلامية. وكل ذلك تم بمنهجية ونظام مستمرين لا يمكن أن يكونا «خبط عشواء» من القدر السياسي للمنطقة.
ليس هذا المقال في معرض التجميل للتدخل السوفيتي في أفغانستان، على العكس، فقد دفع السوفيت الثمن باهظاً نتيجة الاستدراج «الأمريكي» الساذج لما يسميه السوفيت «التدخل الأممي» لخدمة البشرية. ولكن المقال يعرض «النموذج الأب» لمآل كل دولة تعمد القوى السياسية فيها لاستدعاء تدخل خارجي لفض أي نزاع داخلي، والمآل المرعب لتحول دولنا، نحن وبأيدينا نحن، إلى ساحات واسعة لتدخل القوى الدولية وأجهزة المخابرات العالمية، والقبول بذريعة أن تلك الدول تحافظ على مصالحها وتحميها، في حين فقدنا نحن كل مصالحنا، وصارت دولنا فقط هي التي تتلقى النيران، وتنتهي بالخراب، الذي لا يخلف إلا خراباً أوسع.