دخول الدولة مرحلة «تقشف» وبدؤها بشكل فعلي في «خفض النفقات» و»ترشيد الإنفاق»، كلها أمور تؤكد لنا بأنه كان بالإمكان نهج نفس الأسلوب -نعني خفض النفقات- منذ زمن طويل جداً، بحيث تمكننا العملية من الحفاظ على المال العام «دون الإخلال» بالعمليات أو «التقصير» في المشروعات، على عكس الحاصل الآن.
كان بالإمكان أفضل مما كان، وأنه بقليل من التخطيط المقرون بالتعلم من الأخطاء كان يمكن اتخاذ إجراءات فعالة ومؤثرة دون انتظار «وقوع الفأس في الرأس»!
الفأس بالفعل وقعت في الرأس، فالدولة والحكومة تقوم بالخفض «مضطرة» كون لا خيار آخر أمامها، في ظل تضخم الأزمة المالية لدينا ومشكلة الدين العام.
كلمة «لو» لا تفيد الآن، لكن إبراء للذمة فقد حذرنا مرات عديدة قبل سنوات بشأن الوضع المالي، وبشأن تكاثر المشاريع غير ذات الأولوية للمواطن، وبشأن عدم وجود محاسبة جدية للتجاوزات المالية والإدارية الموثقة في تقارير ديوان الرقابة.
توجسنا دائماً من عدم اتخاذ إجراءات حازمة وضرورية وقتها، ما سيجعل المشاكل تتفاقم وتتعقد وتتفرع منها مشاكل مركبة أخرى، يصعب أمامها إيجاد حلول تطبقها الدولة وهي في وضع «مريح» أفضل من القيام بها «مضطرة».
الخوف من أننا قد نصل لمرحلة ننجح فيها جزئياً في حل أجزاء من المشكلة المالية بناء على عمليات الخفض والتقشف، لكن سرعان ما ستعاود المشكلة الظهور لأن نفس الأسباب مستمرة ولم يتم حسمها للأبد.
استمرار المشاريع غير ذات الأولوية، والتجاوزات الإدارية وما يترتب عليها من هدر مالي، إضافة لسوء التخطيط المالي واستقراء المستقبل وجدولة الأولويات، مع الاحتمالية الواردة لزيادة الدين العام، كلها تنذر بأننا قد ندخل مرحلة أصعب مع اتخاذ إجراءات أكثر صعوبة.
حينما أقرت الميزانية قبل شهور، بعد مساجلات ومماحكات بين السلطتين التنفيذية والنيابية، مع خلوها من مكاسب للناس بذريعة صعوبة الوضع المالي ووجود الدين العام، في المقابل أقر استقراض مبالغ مليونية لمشاريع هنا وهناك أغلبها لا يمثل أولوية للمواطن، بل يناقض التوجه المعلن بشأن «التقشف» و»خفض النفقات»، وهنا مبعث القلق.
«التقشف» وسياسة «شد الحزام» لن تجدي إن اقتصرت إجراءاتها على ما يمس الموظفين فقط، سواء قلل العمل الإضافي، أو رفع الدعم أو فرضت رسوم، أو ألغيت مكتسبات مهنية، بل الدين العام لن يسده «ترشيد إنفاق» على مصروفات «القرطاسية» و»التدريب»، بل ما يؤثر فعلاً هو وقف التجاوزات والهدر المالي الكبير في مشاريع «غير ذات أولوية» للناس، وفي ضبط مصروفات الوزراء فيما يتعلق بالفعاليات والبروتوكلات وبعض المشاريع التي تطغى أهدافها الإعلامية والترويجية على أهدافها المعنية بخدمة المواطن.
لأننا في فترة «تقشف»، لا يعقل بالتالي «شد الحزام» في جانب، و»إرخاؤه» على الآخر في جانب آخر، إذ لسنا اليوم في حاجة لتبديد الأموال على مبادرات وتحركات ومشاريع هدفها «الشو» الموجه للخارج، بل يجب إبدالها بما يخدم الاقتصاد ويحرك عجلة الاستثمار بما يستقطب الأموال لداخل البلد، ومجمع «التنين» الذي سيفتتح في ديسمبر القادم خير مثال على «نجاعة» هذا التوجه.
رسالتنا بأنه يجب العمل بـ»قلق» يشوبه «الحرص» على عدم تكرار أخطاء السابق بشأن غياب المحاسبة و»استسهال» إنفاق الأموال على أمور لا تمثل أولويات بل «كماليات»، إذ قلب المواطن لن يتحمل تعقيدات أخرى تفرض المزيد من إجراءات الـ»تقشف» على التقشف الحالي.