يتصور بنيامين نتنياهو أنه ببضع كلمات نزقة وبتصريحات مرتجلة قادر على نقل المسؤولية عن المحرقة اليهودية من النازيين الألمان الى الفلسطينيين. هذه خفة لا تحتمل ولا يجوز ترك رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي أمر بمجازر بحق المدنيين في غزة وبتدمير القطاع على رؤوس سكانه أن يفلت بهذا التجاوز الخطير لحقائق التاريخ ووقائعه.
ليس الحاج أمين الحسيني بالشخصية التي يفتخر الفلسطينيون بها، ليس لانحيازه إلى جانب ألمانيا الهتلرية فحسب، بل لمجمل سيرته منذ أيام شبابه وتوليه منصب الإفتاء في القدس وسط صراعات الأعيان الفلسطينيين التي كلفت القضية الفلسطينية أثماناً باهظة في ظل التمدد الاستيطاني اليهودي، وانضمامه إلى حملة تجنيد البوسنيين المسلمين للقتال إلى جانب الاحتلال النازي ليوغوسلافيا، وصولاً إلى دوره في إضفاء طابع ديني مقفل على الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. لم يكن دور الحاج أمين معدوماً في العلاقات الأوروبية – العربية في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي على ما تشهد لقاءاته واتصالاته والمفاوضات التي أعقبت اعتقاله في ألمانيا المهزومة، لكنه في المقابل لم يكن رأيه أو تقييمه مما يغير سلوك القوى الكبرى أثناء الحرب العالمية الثانية.
وليست المحرقة بالحدث العابر الذي يمكن أن يتجاذب هتلر فيه أطراف الحديث مع ضيف لم يعبر أي من مسؤولي الصف الأول النازيين عن أي قدر من الاحترام له ولقضيته، فظل ضيفاً مهملاً في ألمانيا قبل أن يبعد منها إلى فرنسا ثم إلى مصر. الدراسات عن الهولوكوست تشير إلى أمرين شديدي الترابط في اتخاذ القرار بشأنه وهما: اندراجه في سياق صراع مديد خاضه اليمينيون الأوروبيون ضد الوجود اليهودي في القارة، بكل ما يحمل ذلك من سمات خاصة بالمكان والزمان والأيديولوجيا المهيمنة، والثاني أن القرار النازي بالشروع في القضاء على المجتمعات اليهودية في مناطق الاحتلال الألماني، خضع لنقاشات طويلة ولعدد من المؤتمرات الموسعة ما يجعل ما قاله نتنياهو عن نصيحة أمين الحسيني لهتلر بـ «حرق» اليهود مجرد كلام فارغ لا سند ولا أساس له، وهو ما أكده - على كل حال - أكاديميون يهود وألمان قبل غيرهم. بل إن هناك دراسات معمقة وموثقة حول كيفية اتخاذ القيادة الألمانية لقرار «الحل النهائي» لا يظهر فيها ولو من بعيد طيف المفتي الحسيني.
وربما كان من الأجدى لنتنياهو قبل إطلاق هذه التصريحات البلهاء قراءة تقرير هانا أرنت عن محاكمة واحد من أعتى القتلة النازيين هو أدولف إيخمان «إيخمان في القدس: تقرير عن عادية الشر»، ليدرك من أي قيعان أوروبية جاء العداء للسامية ومن ثم الهولوكوست.
تتصاعد السخرية لتصبح مهزلة عندما نتذكر أن والد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنزيون نتنياهو كان من كبار المؤرخين اليهود الذين تخصصوا في مجال الشتات اليهودي في أوروبا.
لا يشفع لنتنياهو هنا اللجوء التقليدي إلى الدعاية المستعجلة في وقت الأزمات السياسية ومحاولة أبلسة الخصم الفلسطيني بأي ثمن. فالعرب، وإن كانوا ارتكبوا الكثير من الأخطاء وبعضها لا يبرر ولا يمكن الدفاع عنه مثل علاقات الحاج أمين الحسيني مع الرايخ النازي، وبالتالي كامل منظومة القيم والتفكير الذي حكم رؤية الحسيني إلى العالم، إلا أن العرب يستطيعون بكامل الثقة القول إنهم أيضاً دفعوا ثمن جريمة المحرقة التي ارتكبتها ألمانيا النازية وبالتالي «الحضارة الأوروبية» في طور أزمتها، حيال اليهود.
ما يهم اليوم هو وقف جرائم الاحتلال الإسرائيلي ومحاسبة مرتكبيها وليس إضفاء المزيد من تزييف الهواة وقليلي الموهبة على تاريخ لا ينقصه التعقيد والتشابك.
* نقلاً عن صحيفة «الحياة» اللندنية