احتدام الاستقطاب الإقليمي والدولي لا يبشر بنضوج التسوية أو استنفاد النزاع السوري لوظائفه ولهذا فالأرجح هو استمرار اختبار القوة وتمديد المأساة السورية على هدير السوخوي


أتاحت الحملة الجوية الروسية المستعرة منذ آخر الشهر الماضي، المجال للرئيس السوري كي يغادر بلاده للمرة الأولى منذ اندلاع الاحتجاجات ضده، والوقوف في حضرة سيد الكرملين، في مشهد لم يتردد المراقبون في تشبيهه بما جرى منذ 35 سنة إبان استقبال ليونيد بريجنيف للرئيس الأفغاني الانقلابي بابراك كارمل. وبالرغم من كل الفوارق بين المرحلتين وأبطالهما، يكرر القيصر الجديد بوتين في سوريا أول مغامرة لبلاده خارج محيطها الجيوسياسي المباشر، تماماً كما فعل الأمين العام السابق بريجنيف في بلاد الأفغان التي تحولت إلى «فيتنام السوفيت» وبدأ فيها دق أجراس النهاية للإمبراطورية الحمراء.
ووفق الاستراتيجية المتبعة حالياً وتحت عنوان «الحرب ضد الإرهاب»، تريد موسكو تكريس الوضع القائم ومنع إسقاط النظام عبر تغيير ميزان القوى وفرض ما يسمى حلاً سياسياً ملائماً لتصورها. وتحاول القيادة الروسية التمسك بالأسد وترك مصيره «لانتخابات تتسم بالشفافية»، حسب أقوال بوتين ولافروف، وربما تكون أهون الشرور في الحسابات الروسية مواجهة المأزق السياسي عبر تجميد الوضع وتركه يهترئ مع الحفاظ على حضور روسيا ومصالحها. بيد أن هذا الرهان المتباين «بين الإنجاز والتجميد» ينطوي أيضاً على مغامرة غير محسوبة النتائج في نزاع استهلك الكثير من المبادرات الدبلوماسية، ويبدو من الصعب الوصول إلى الحسم العسكري فيه.
من خلال تكثيف الحملة الجوية وإبراز العضلات في عملية إطلاق الصواريخ من بحر قزوين، تسعى موسكو إلى الإيحاء بأنها تضع كل ثقلها في الميزان، وأن انخراطها لم يكن خطوة ارتجالية بل تم التخطيط له بتمعن وبالتنسيق مع الجانب الإيراني صاحب الثقل في الحلقة الأولى للنظام في دمشق، والمتمتع بحضور ميداني بري يحتاج الروس للتعاون معه. وفي هذا الصدد يقول مصدر روسي إن «الفشل ممنوع» في الحملة العسكرية وعندما نسمع هذه العبارة نتذكر تهويل بوتين باستخدام السلاح النووي في شبه جزيرة القرم، لكن هذا التهويل الآن يهدف في المقام الأول لثني واشنطن، كما فعلت حتى الآن، عن إيصال الصواريخ المضادة للطائرات إلى الساحة السورية، خاصة أن الأسلحة المضادة للدروع لوحدها لعبت دوراً كبيراً في الأسابيع الثلاثة الماضية في منع القوات السورية الموالية وحلفائها من تحقيق تقدم ملموس يقلب موازين القوى.
أما الدوافع والأهداف الروسية التي تتمثل في «ضرب الإرهاب» و«العملية الاستباقية ضد الجهاديين الشيشانيين والقوقازيين» و«بلورة الحل السياسي»، فلا يمكنها أن تحجب الإطار الجيوسياسي الأوسع، إذ إن اختبار القوة حول سوريا يعد حيوياً بالنسبة إلى دور روسيا وموقعها في الساحة الدولية، وبالنسبة إلى القيصر الذي أخذ حلف شمال الأطلسي يلامس حدوده، والذي لم يتوصل لتطويع أوكرانيا والذي يعاني اقتصاد بلاده من ارتدادات سياساته.
ومما لاشك فيه أن توقيع الاتفاق النووي مع إيران معطوف على الانهيار العسكري لقوات النظام منذ الربيع الماضي، كانت له صلة بتوقيت الهجمة الروسية. ويحاول بوتين في اتصالاته مع الدول العربية وتركيا القول إن «الأمر لي» في سوريا، وأن واشنطن المترددة لن تحد من اندفاعته، وفي نفس الوقت سيسعى عبر الغطاء الجوي المكثف والمساعدة الاستخبارية وعمل الخبراء، دعم العمليات البرية لإعادة الوضع إلى ما كان عليه أواخر 2014. ويقول مصدر أوروبي معني بالملف «يصعب على بوتين التسليم بالخسارة وهو يستفيد من عدم وجود ند دولي ليقارعه على الساحة، ولذا يعود إلى منطق الحرب الباردة والتدخل على الطريقة السوفيتية»، ويتلازم التصعيد الميداني مع إصرار روسيا على قراءتها لاتفاق «جنيف 1» وتطلب بالمختصر أن توافق المعارضة السورية على إخراج مسرحية حل سياسي لا يمثل أي انتقال فعلي للسلطة.
لكن ما بين الطموحات والسقف العالي، وبين مجريات الصراع ونتائجه، يمكن التشكيك بإمكانية تحقيق موسكو لأهدافها المرسومة، لأن عملياتها في 22 يوماً لم تحدث تغييراً نوعياً، ولأن قدرتها على الاستمرار طويلاً ستزداد صعوبة، ولأن مشكلة النظام في توفير العنصر البشري بالرغم من دعم المحور الإيراني لاتزال قائمة، ويبقى مستبعداً الانخراط الروسي البري الواسع من أجل التوصل إلى الاختراقات المرجوة. ولذا إذا لم ينجح لقاء فيينا الرباعي «الأمريكي الروسي السعودي التركي»، في 23 أكتوبر في بلورة خارطة طريق للحل السياسي، سيبدأ المأزق يرتسم أمام الاستراتيجية الروسية. لكن ذلك يمكن أن يدفع بوتين إلى الخطة «ب» أي محاولة تحصين معاقل النظام والاكتفاء بسوريا «مقيدة» أو «صغرى» ترسم حدودها المعارك العسكرية الدائرة. وربما إذا بدأت الحملة الروسية تتعرض للاستنزاف، يضطر عندها سيد الكرملين للتخلي عن رئيس النظام والتركيز على المصالح العليا لروسيا تماماً كما قال رئيس وزرائها مدفيديف.
خلافاً للنبرة العالية للرئيس بوتين بعد استقبال الأسد وعشية لقاء فيينا، سرب موقع روسي على الشبكة العنكبوتية خبراً مفاده أن الأسد وصل مع طائرتين إلى موسكو تحملان الكثير من أفراد عائلته وحاشيته والمقربين منه، وأن أسعار العقارات في المناطق الغنية بموسكو ارتفعت بعد ذلك. إذا صدقت هذه الأخبار يمكن أن تكون موسكو في طور التفتيش عن بديل للأسد يضمن بدء تسوية سياسية. وإذا تحقق ذلك يمكن أن تتكرس بداية نجاحات القيصر الجديد في الشرق الأوسط ما بعد العصر الأمريكي. لكن احتدام الاستقطاب الإقليمي والدولي لا يبشر بنضوج التسوية أو استنفاد النزاع السوري لوظائفه، ولهذا فالأرجح هو استمرار اختبار القوة وتمديد المأساة السورية على هدير السوخوي.
* نقلاً عن صحيفة «العرب» اللندنية