منطقتنا العربية وشمال الخليج العربي والشام تحولت لمناطق فوضى تسبب فيها الأمريكيون بشكل رئيس حولوا العراق لبؤرة منكوبة وخرجوا منه بعد أن نفضوا أيديهم في عام «الربيع العربي» الذي دعموه
كمن يقتل القتيل ويمشي في جنازته، هكذا هي صورة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير وهو يقول لشبكة الـ «سي إن إن» بأنه يعتذر عن الأخطاء التي ارتكبت خلال الحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية وبتحالف مع بريطانيا في العراق.
ولإنعاش الذاكرة، فإن إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش حاولت جاهدة إقناع دول الأمم المتحدة والكونغرس بوجود تقارير لدى المخابرات الأمريكية والبريطانية أيضاً بوجود «أسلحة دمار شامل» في العراق. وحتى يومنا هذا لم يتم إثبات امتلاك العراق لمثل هذه الأسلحة وأعلنت لجنة التفتيش بقيادة هانز بليكس عدم وجودها «قبل الحرب»، إلا أن هذا لم يمنع بوش من بدء الحرب في 19 مارس 2003، وبعد سقوط بغداد أرسل بوش فرقة تفتيش أخرى للبحث عن الأسلحة بقيادة ديفيد كي الذي خلص في تقريره الذي سلمه في 3 أكتوبر 2004 بأنه لا وجود لأسلحة دمار شامل في العراق. وفي 12 يناير 2005 تم حل فرقة التفتيش بعد فشلها في العثور على الأسلحة التي ادعى بوش وبلير وجودها في العراق.
وللمعلومية هي ليست المرة الأولى التي يحاول فيها رئيس حكومة بريطانيا السابق بيان الندم على ما حصل في العراق، ويفسر ذلك بأنه كان يعلم وعلى يقين بأن ادعاء وجود الأسلحة كان مجرد سبب لبدء مخطط أمريكي معد مسبقاً للسيطرة على الخليج والاستحواذ على النفط، وهو الأمر الذي تؤكده عملية التحقيق التي استمرت لمدة ست سنوات لما عرف بـ «وثيقة بلير» التي يرى بشأنها كثير من الخبراء السياسيين أنها إثبات على «تزوير» أمريكي بريطاني للحقيقة بحيث تمنح الشرعية لغزو العراق.
أيضاً، حتى اليوم لم يثبت وجود علاقة بين نظام صدام حسين وتنظيم القاعدة، ما ينسف القول الأمريكي بأن العراق وصدام كانت لهما يد في اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر على الأراضي الأمريكية. وللتأكيد فقد أصدرت هيئة مشكلة من مجلس الشيوخ الأمريكي تقريراً في 29 يوليو 2004 بعدم وجود علاقة بين صدام والقاعدة، وفي سبتمبر 2005 نفى كولن باول وجود ارتباط بين الجهتين.
ولأن الأمريكان أنفسهم يتندرون بأن جورج بوش الابن كان من أسوأ ساكني «البيت الأبيض» وصانعي السياسة الأمريكية، فإن هذا الأخير كشف «كذبه» بشأن العراق ومبررات الحرب، حينما قال بصريح العبارة في 2 أغسطس 2004 بالنص: «حتى لو كنت أعرف قبل الحرب ما أعرفه الآن من عدم وجود أسلحة محظورة في العراق فإني كنت سأقوم بدخول العراق»!
ورغم «سذاجة» التصريح إلا أنه يكشف النوايا الحقيقية، فالمعطيات الأمنية الاستخباراتية الأمريكية التي توافرت خلال فترة ترشح بوش الابن وقبيل انتخابه أشارت لنقاط هامة على رأسها مذكرة رسمية كتبها ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وبول وولفويتز بعنوان «إعادة بناء القدرات الدفاعية للولايات المتحدة» في سبتمبر 2000 أي قبل اعتداءات القاعدة على أمريكا، وفيها رأوا ضرورة خلق تواجد أمريكي في الخليج العربي بغض النظر عن حسن أو سوء العلاقة مع صدام.
إضافة إلى ذلك وجود أسباب أهم للولايات المتحدة من الناحية الاقتصادية عبر الهيمنة على ثاني أكبر احتياطي نفطي عالمي، خاصة وأن صدام قرر استخدام اليورو فقط لشراء النفط العراقي بدلاً من الدولار، بالتالي وضع اليد الأمريكية هناك كان مهماً لتجنب حصول أزمة وقود في داخل الولايات المتحدة.
هناك تقارير سبقت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر كلها أكدت أن الخيار الاستراتيجي الأمثل للولايات المتحدة للاستفادة من الوجود في المنطقة كان عبر بوابة العراق، وحصول الاعتداءات بعدها بعام أثار علامات استفهام عديدة، أكثرها خطورة فجرها فيلم المخرج الأمريكي مايكل مور «فهرنهايت 11-9»، وما حصل بعد ذلك كله أوضح وأكد بأنه سيناريو لـ «بناء قضية» تبرر دخول العراق.
أنزل العلم الأمريكي في العراق في 15 ديسمبر 2011، وغادر آخر جندي أمريكي العراق بعد ثلاثة أيام، وهو نفس العام الذي انفجرت فيه فوضى «الربيع العربي»، وترك العراق وقد تحول لغابة وساحة حرب بين جموع وكانتونات عديدة، وتحول لحاضنة مثالية لبروز تنظيمات وجماعات مختلفة.
بلير يعتذر ويتأسف على ما حل في العراق «بسببه وبسبب بوش الابن»، في وقت يفشلون فيه كتحالف مجدداً في وقف حمامات الدم التي يتفنن فيها سفاح وجزار مثل بشار الأسد جرائمه لا تحتاج لتقارير استخباراتية «مزورة» لتأكيدها وإثباتها.
يتحسر بلير ويشير للقاعدة التي أصلاً كانت نواتها صناعة أمريكية في أفغانستان ضد الروس، ويشير لتنظيم الدولة «داعش» وينفي أنه خرج في العراق بل سوريا، وهو ما يعني أنه تنظيم يحارب إيران وأتباعها وحلفاءها وعلى رأسهم الروس، الأمر الذي يسبب «إرهاقاً» للذهن لمعرفة كيف ظهر التنظيم وبدأ، وما علاقة الأمريكيين بهم رغم أنهم يدعون محاربته؟!
منطقتنا العربية وشمال الخليج العربي والشام تحولت لمناطق فوضى، تسبب فيها الأمريكيون بشكل رئيس. حولوا العراق لبؤرة منكوبة، وخرجوا منه بعد أن نفضوا أيديهم في عام «الربيع العربي» الذي دعموه، فالفوضى تمددت، وفرص التغلغل و»اللعب» والسيطرة كثرت.
يعتذر بلير ويبدو الأسى عليه، لكن ما فائدة الاعتذار هنا؟! من يعيد المنطقة لما كانت عليه؟! من يعيد العراق للعراقيين، أقلها على هيئة بلد لها مقوماتها؟!
يعلم بلير تماماً أن هذا لايفيد. وكيف يفيد اعتذار القاتل لـ «جثث» ضحاياه!