كانت تعريفات الاستراتيجية القديمة جميعها تأتي في منظور العمليات العسكرية، ثم أصبح بمقدورنا القول إن بلد ما يمكن أن يشكل العمق الاستراتيجي لبلد آخر، في ميزان العلاقات الدولية من قيمته التي يحددها بشكل رئيس موقعه الجيواستراتيجي، ومن عمقه التاريخي.
ويغمرنا شعور بالندم حين نتذكر أنه كان بإمكان جزء من جسدنا العربي، كجمهورية السودان، أن يقوم بدور العمق الاستراتيجي للخليج، بموقعه وقوته العسكرية، بدل سفينة أجنبية في الأفق، أواتفاقية أمنية مثقلة بنودها بالتبعات الجسام. لقد كانت الذروة الدامية في العلاقات الخليجية السودانية حين قفزت الخرطوم إبان فترة زمنية - تحتل الزاوية الأكثر ظلماً في الذاكرة الخليجية - إلى ما سميناهم «دول الضد». ثم جاءت «عاصفة الحزم» كمنعطف حاسم، ووضعت العلاقات الخليجية السودانية على مسار علاقات مختلف. وتوجت مؤخراً بنزول قوة برية سودانية بكامل تجهيزاتها، وأخذت مواقعها في اليمن. إن مشاركة أفراد قوة سودانية مع أخوانهم الخليجيين تأتي كتأكيد سوداني لعمق الدور العربي في الحفاظ على الأمن القومي للمنطقة، وتشكل صورة تختزل الحلم العربي في تشكيل قوة عسكرية عربية موحدة - كما قال قائدها - والمشاركة السودانية قرار موفق، ويدل على أن الخرطوم تبنت سياسة الانفتاح العسكري، والتركيز على الحضور في جوارها الإقليمي وعلى كتفها البندقية.
وللجيش السوداني خبرة ولدتها بيئة النزاعات المسلحة، التي كان ضحية لها، والحقيقة التي لا تقبل النقض هي أن الجندي السوداني هو أكثر العسكر العرب خوضاً للمعارك، وأكثرهم تأهيلاً في الحرب البرية. لكن ذلك لم يشفع للقوة السودانية حين نزلت في «ميناء الزيت» في عدن، وكما قال لسان الدين ابن الخطيب ''صاح فوق كل غصن ديك»، فقد كان هناك من «غمز» بوجود مكاسب اقتصادية أو سياسية للخرطوم، وهناك من «لمز» أن مهمة القوات السودانية أمنية ستمارس من خلاله دور المذل للشعب اليمني الشقيق. ورغم أنه تم نفي الأمرين سودانياً إلا أن علينا التسليم للزمن بحقه في توضيح الأحداث، وإن كنا سنستبق ذلك بسؤالين، أولهما، ألم تكن مشاركة مصر في «عاصفة الصحراء» عام 1991، سبباً في إسقاط ديونها العسكرية بالكامل، وتحولها من مدينة بــ 50 مليار دولار لمالكة احتياطي بــ 20 مليار دولار، كأكبر إنجاز قدمه الرئيس مبارك لشعبه وبلده، أما السؤال الثاني فهو، كيف ترسل الخرطوم قوات مدربة على خوض حروب جبلية، ذات كلفة تدريب عالية، بينما كان بإمكانها إرسال شرطة أو حرس وطني لتحقيق نفس النتيجة. كما أن تصاعد وتيرة الانفلات الأمني والتفجيرات والاغتيالات بهدف زعزعة الاستقرار والأمن في المناطق المحررة خير مبرر لتواجد قوات مقتدرة لإعادة السلام، وهو جهد يخدم خطة استعادة الشرعية.
وإذا كانت الخرطوم صاحبة المبادرات، فأتمنى ألا يكون صانع القرار الخليجي من أصحاب ردود الأفعال، فالتحية السودانية يجب أن يرد عليها خليجياً بأفضل منها، ونستطيع أن نزن حجم المشاركة العسكرية السودانية بما سببته من قلق لطهران، التي انتقدت على لسان مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان انضمام السودان إلى التحالف المناهض لها باليمن.
* المدير التنفيذي لمجموعة مراقبة الخليج