تحدثت في مقالي السابق عن تعريف الطبقة المتوسطة عالمياً، كما أشرت إلى نسب الطبقات المتوسطة في عدد من الدول العظمى، ونسبة الطبقة المتوسطة في مملكة البحرين وعدد من دول الخليج، كما عرجت على أهم العوامل المؤثرة في هذه الطبقة، وأهمية هذه الطبقة. وسأقف اليوم معكم لأروي قصة لمواطن بحريني من الطبقة الوسطى، «حسب المعايير الدولية»، حيث تؤكد المعايير الدولية أن الطبقة المتوسطة هي التي يحصل فيها الفرد على 100 دولار يومياً، أي ما يعادل الألف دينار بحريني شهرياً!! محمد مواطن بحريني، اجتهد قليلاً فحصل على شهادة البكالوريوس في العلوم الإدارية، عمل محمد في وظيفة حكومية، وتدرج فيها نظراً لاجتهاده وكفاءته، في بداية الأمر اضطر محمد للاقتراض من أجل شراء سيارة تعينه للوصول إلى عمله، ولم يبحث عن سيارة غالية الثمن، بل التزم بشراء سيارة «متوسطة» تعينه على مشاويره وحسب. واستمر محمد بالجد والاجتهاد، وقرر مواصلة تعليمه فاضطر لزيادة قرضه ليستدين هذه المرة من أجل الدراسة، فراتبه المتواضع لا يؤهله إلى تسديد الأقساط الدراسية! وبهذا ارتفعت قيمة القسط وأصبح محمد يعيش بنصف الراتب! كبر محمد في العمر، وبدأت الخطوط التعبيرية ترتسم على وجهه، وزاد إلحاح أم محمد على زواجه، حيث إنها تتمنى رؤية أحفادها قبل موتها. حاول محمد أن يفهم والدته بأن الأمر ليس باليسير، وأنه متورط في التزامات مالية، ويحتاج إلى مزيد من الوقت لتسديد هذه الالتزامات، ليستطيع أخذ قرض جديد من أجل الزواج! لكن الأم كانت مصرة على تزويج ابنها محمد!مسكين محمد، لم يستدن أو يقترض من أجل أمور غير ضرورية، فلا أحد منا يستطيع أن ينكر أن السيارة باتت من المتطلبات الأساسية في الحياة، وهو لم يبالغ في شراء سيارة راقية، والأمر كذلك بالنسبة للدراسة فالتطوير الذاتي مطلوب في العمل، وكذلك هو أمر الزواج!! المهم، بعد إلحاح من الأم، وبرغبة من محمد في الارتباط من زميلته التي كانت تجمع بينهما علاقة ود بريئة، قرر محمد الامتثال لطلب والدته بالزواج! طبعاً كان المهر وحفلة الزفاف كلها «متوسطة»، فمحمد من الطبقة المتوسطة أصلاً، ويؤمن بأن «يمد رجله على قدر لحافه»، وطالبت العروس بسفرة من أجل شهر العسل، الذي لم تكن مدته شهراً بتاتاً، بل كانت أسبوعاً في تركيا مع أحد العروض «المتوسطة» التي تقوم بها مكاتب السفر!ولأن من حق محمد الاستقلال في حياته الزوجية، ناهيكم عن أن بيت أبيه لا يكفي لأن يشاركهم محمد وزوجته العيش معهم، قرر محمد استئجار شقة متواضعة بمبلغ 250 ديناراً بحرينياً، وقام هو وزوجته بتأثيثها بأثاث متوسط، لحين حصوله على بيت الإسكان أو حتى حصوله على أرض سكنية! مع أن المعايير هلامية ومتغيرة إلا أن الحلم مشروع حيث إن قانون الحصول على وحدة سكنية هو 900 دينار عند التقدم بالطلب، ولا يتجاوز 1200 دينار بحريني عند تخصيص الطلب! أما بالنسبة للانتفاع بالقسائم الإسكانية فهو ألا يقل دخل المواطن عن 800 دينار عند قبول الطلب ولا يزيد عن 1500 دينار عند تاريخ تخصيص الخدمة الإسكانية.وهنا قمة الغرابة! فهل يعقل أن يظل المواطن مرابطاً في وظيفته لكي يضمن الانتفاع بالخدمات الإسكانية! هل يجب على الموظف والمواطن البحريني ألا يطور من مهاراته ومن قدراته، ويتخلى عن الترقي الوظيفي والزيادة في الراتب من أجل أن يحصل على وحدة سكنية، ناهيكم عن أن طابور الانتظار للانتفاع بأي خدمة سكنية يتجاوز عشرات السنين! وبعيداً عن كل هذا، رزق محمد بطفله الأول! وإذا كنت لا تعرف عزيزي القارئ فإن قيمة علبة حليب الأطفال تبلغ 9 دنانير على أقل تقدير، وأن الطفل يحتاج ما بين 5 إلى 6 علب شهرياً، ناهيك عن باقي المصاريف! وبالطبع لأن الأم عاملة وإجازة الأمومة في مملكة البحرين لا تتجاوز 60 يوماً فإن الطفل يحتاج إلى حضانة لتهتم به ريثما تنتهي الأم من عملها، ومضت السنتين سريعاً وأصبح عمر الصغير 3 سنوات، والتحق بإحدى رياض الأطفال «المتوسطة»، كما من الله على محمد بطفل آخر. لن أطيل عليكم، يتقاضى محمد راتباً مقداره 1258 ديناراً شهرياً، أي أنه من الطبقة المتوسطة حسب المعايير العالمية، وزوجته تعمل براتب 467 ديناراً بحرينياً، ويحسده الكثير على وضعه الاجتماعي وعلى الطبقة «المتوسطة» التي ينتمي لها ولكن هل تعلم كيف يوزع محمد مصروفاته. 250 ديناراً إيجار الشقة «ملاحظة يحق للمستأجر رفع الإيجار بنسبة 10% سنوياً»، 50 ديناراً مصروفات كهرباء وماء، 450 ديناراً لقرض شخصي، 200 دينار مصاريف الحضانة، 300 دينار مصاريف «ماجلة البيت»، 50 ديناراً مصروف اتصالات وإنترنت، 30 ديناراً مصاريف بنزين السيارة.طبعاً كل ما سلف ذكره يعد من «الأساسيات» في الحياة، والأرقام التي أوردتها أرقام في غاية المنطقية. لم أتكلم حتى الآن عن رواتب خدم وحشم!! ولا عن مصاريف اللعب والمرح والسفر. كل ما تكلمت عنه يعد من أساسيات هرم ماسلو وها هو محمد يعيش شهرياً بعد أن يفي بالمصروفات الأساسية بنتيجة سالب 72 ديناراً!! أي أنه يحتاج إلى 72 ديناراً ليفي بالتزاماته كاملة. طبعاً محمد يعد من الطبقة المتوسطة، ولذلك فهو لا يحصل على علاوة غلاء المعيشة ولا على بدل السكن حسب المعايير. وبدلاً من أن يصرف محمد على زوجته شهرياً حسبما أمر الشرع، يجعل زوجته تساعده في مصاريف الحياة ليستطيعا العيش!! فما بالكم إذا ما افترضنا أن لدى محمد 4 أبناء!! أو افترضنا أن محمد قرر الاقتراض من أجل شراء بيت لأن المعايير لا تنطبق عليه!! فهل سيستطيع محمد أن يواجه متطلبات الحياة!! إن الطبقة «المتوسطة» في البحرين بات يطلق عليها لقب «الطبقة المتقسطة»، أصبحت هذه الطبقة تعيش على «الأقساط» كي تستطيع مواصلة الحياة! فهل فكرت الدولة في حال هذه الطبقة! هل فكرة كيف تعينها لكي تحافظ على ثباتها في المجتمع! وهل فكر السادة النواب أثناء تمريرهم لأية معايير في حال هذه الطبقة! إن واقع هذه الطبقة يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتعمق، وهي مسؤولية تقع على كل أطراف الدولة، حيث تؤكد جميع الأبحاث الاقتصادية أن زيادة معدل الطبقة الوسطى مؤشر على ثبات المجتمعات ورصانتها، وأنه من الواجب على الدولة وعلى جميع المؤسسات أن تقوم بدراسة جدية لحال الطبقة المتوسطة، وتضع حلولاً ناجعة تتناسب مع وضع الطبقة المتوسطة في مملكة البحرين.وكل ما يشغل تفكيري وأنا أكتب حالياً هو هذا السؤال «إذا كانت هذه حالة ما يسمى «بالطبقة الوسطى» فما هو حال الطبقة الدنيا!!