في ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الثاني الذي نظمه مركز الإمارات للسياسات بالتعاون مع وزارة الخارجية الإماراتية الأسبوع الماضي تحدث تشارلز ريس، نائب رئيس مؤسسة «راند» للشؤون الدولية، عن الدور الأمريكي في المنطقة.فقال تبريراً غريباً لم أسمع بمثله حول سياسة الولايات المتحدة الأمريكية والتزامها تجاه المنطقة وأمنها، كان إقراراً غريباً من نوعه عن فشل التجربة الأمريكية في العراق، إذ أكد السيد ريس أن الفشل في العراق وسوريا لا يعود لعدم التزام واشنطن بأمن المنطقة وهو التزام ثابت ومستمر، إنما يعود لسبب آخر غريب سيدخل القاموس السياسي لأول مرة، السيد ريس يقول إن السبب هو «الخيال الأمريكي» وليس السياسات الأمريكية!! قائلاً «إن الأمريكيين لم يستطيعوا تخيل ما يمكن أن ينتج عن تدخلهم في بلد مركب كالعراق، ولم يقدروا أن سوريا قد تتفتت بهذا الشكل أو أن مشكلات البطالة بين الشباب قد تشعل النار في العالم العربي». «جريدة الرياض الثلاثاء 3 نوفمبر»السيد بريس يقول إن ما حدث في العراق بعد دخول الأمريكان عام 2003 أمر فاق «الخيال الأمريكي» رغم أن ما حدث في العراق كان بالنسبة للجميع أمراً متوقعاً وبديهياً بناء على المعطيات الواقعية على الأرض.الآن دعك من جدل شرعية أو عدم شرعية إسقاط النظام العراقي، وحقيقة وجود أسلحة دمار شامل في العراق، أو كذب هذا الادعاء، دعك من مبررات القرار إنما لنركز فقط على المعطيات التي تبني عليها الإدارة الأمريكية سياستها وبناء عليها تتخذ قراراتها، هل يعقل أن رد فعل الجيش العراقي أثناء ضربه وبعد حله وتشريد عشرات إن لم يكن مئات آلاف منه كان خارج إطاره «الخيال الأمريكي»؟ هل يعقل أن يكون رد فعل السنة على تهميشهم وتشريدهم ومعرفة أن السنة في العالم الإسلامي أمة وحاضنتهم تمتد من تركيا إلى إندونيسيا وماليزيا، هل يعقل أن رد فعلهم كان خارج إطار «الخيال الأمريكي»؟ هل يعقل أن يكون رد فعل إيران ورد فعل الشيعة على الفراغ الأمني الذي تسبب به برايمر لم يكن ضمن «خيال» صانع السياسة الأمريكية؟ هل يعقل أن رد فعل الأكراد ورد فعل دول الخليج ورد فعل التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا كان غائباً عن «الخيال الأمريكي»؟عام 2002 زارت البحرين إحدى المسؤولات في وزارة الخارجية الأمريكية واجتمعت معها على غداء مع موظفي السفارة الأمريكية البحرينيين وأطلعتني على كتيب صغير لا تزيد عدد صفحاته عن الـ10 يتحدث عن مستقبل العراق «الجميل» ما بعد سقوط صدام حسين، فسألتها وأنا التي لم أدافع يوماً ولن أدافع يوماً عن صدام حسين وجرائمه سألتها هل أنت متأكدة أن هذا السيناريو للعراق؟ أم لفيلم سنو وايت؟! فقالت هو للعراق لكنه موجز فقط، قلت لها العبرة ليست في التفاصيل العبرة في الاستنتاجات التي توصلتم إليها والخلاصة غير الواقعية التي تتعاطون معها.هكذا إذاً تخضع مصائر الشعوب لدى الإدارات الأمريكية؟ إلى تجارب دون معطيات واقعية، لا مانع إذاً لدى الإدارة الأمريكية أن يموت ملايين البشر ثم يقر الأمريكيون بعد موتهم أن «خيالهم» لم يكن واسعاً بما فيه الكافية ليتخيل ما سيحدث؟ وكأن «الخيال» أحد مدعمات صناعة القرار السياسي، لا عجب أن يعتذر بلير، فإذا كان قتل ملايين البشر من الممكن أن يحدث بسبب قصور في الخيال، فقتلهم بسبب معلومات مغلوطة جائز إذاً؟ أصبح القصور في المعلومات والقصور في الخيال سبباً لموت ملايين البشر!! المهم أنه بعد هذا الإقرار المخيف في انعدام المنطق في رسم السياسة الأمريكية والبريطانية والأكثر منه انعدام الحس الإنساني الذي يضع «الخيال» ضمن عناصر صنع القرار لتحديد مصير ملايين البشر، دعا ريس بعد هذا كله دول الخليج العربية في ملتقى أبوظبي إلى أن تدرك أن الولايات المتحدة تبني سياساتها بما يحفظ «مصالحها» في المنطقة -أي مصالح الولايات المتحدة الأمريكية- وأن عليها -أي على دول الخليج- العمل بشكل مشترك، والحديث بصوت واحد لتكون شريكاً فاعلاً لواشنطن!!ومنا إلى الذين مازالوا يثقون في السياسة الأمريكية مع الأخذ في الاعتبار أهمية مؤسسة «رند» في صناعة السياسة الأمريكية.أترك التعليق لكم!!