آخر ما يضعه القادة الفاسدون والطغاة في حسابهم هو ساعة الممات، فبإغواء من الشياطين ولقصور في الفهم والبعد عن الله يتوهمون أنهم قادرون على دفع شبح الموت عنهم فيخصصون الكثير من أموالهم لرفع الحصون والإكثار من الحمايات وجلب المعدات والأجهزة والطواقم الطبية، ولا يتناولون وجباتهم إلا وفق التوصيات وتحت إشراف خبراء التغذية.
وهم بذلك يسعون واهمين للفرار من الموت وغلق إحدى بواباته، لكنهم في الحقيقة يموتون كل يوم أرقا وقلقاً؛ إما خوفاً من شعوبهم أو تحسباً من خصومهم أو حرصاً على كيفية الاحتفاظ بكنوزهم.
حب المناصب التي اتخذوا منها قنطرة وطرزوها بشعارات زائفة «الدفاع عن الوطن – خدمة الشعب والحفاظ على حقوقه ومكتسباته وغيرها الكثير..» هي التي أعمت بصرهم وبصيرتهم، والحقيقة أن تلك الشعارات هي وسيلة للوصول لغاية وهدف وضيع يتمثل في إشباع الغرائز وهوى النفس، وهي بالتأكيد تفوق غرائز باقي البشر، فأغلبنا طموحه لا يتعدى أن يتملك بيتاً يؤويه ويحصل على زوج يرضيه ومعاش يكفيه ومركبة تحمله، وقلة من يظفر بجمع أضلاع ذلك المربع الذهبي ويفني حياته وربما لا يحققه.
وما جاعت البطون وتقرحت العيون إلا بسبب فساد طبقة الحكام وبطانتهم، فإن صلح الراعي صلحت الرعية.
وطرق كنز الأموال والاستحواذ على مقدرات الشعوب أصبحت علماً له طرقه وأساليبه، وقد فاق الفاسدون اليوم الأولين، ولم تعد هنالك الحاجة للسطو على البنوك والقرصنة بأنواعها، لا أقول ذلك من وحي الخيال؛ فدعونا نعرج للدولة الأكثر فساداً وفاسدين في العالم، وبالتأكيد سيقفز العراق ليحتل ذلك الموقع بجدارة ولا نغفل الكثير من الأنظمة العربية. فهنالك يعشعش أعتى السراق والمافيات على مستوى العالم، وكل له تبريره وطريقته في السرقة، فمنهم من يسرق تحت عباءة الدين ومنهم من جعل من وزارته ووظيفته طريقاً سهلاً لإفراغ الخزائن بعقود وهمية وعمولات فلكية، والآخر من ينهب بمساعدة كتلته وسكوت ورضا مرجعيته، وأخسهم من يتقاضى الأموال لقاء عمالته وخيانته، وطبقة أخرى تهرب الآثار وتستعيض عنها بالمخدرات والمفخخات وتنشر الخراب والدمار لقاء بريق الذهب وسحر الدولار.
حتى نهبت الثروات وأفرغت الخزانات، وقد أوفى معهم المحتل وأغمض عينيه، وفي كل الأحوال فلهم الفتات وأقصى ما يتنعمون به هو المتعة الآنية والمجون وإقامة الحفلات وملء البطون، فالمحتلون يعلمون يقيناً أن كل تلك المليارات المهربة ستحول إلى عهدتهم إما نقداً في البنوك أو عقارات أو مصالح وأسهم في شركات، وقد انتعش اقتصاد تلك الدول والمتضرر الوحيد هو شعب العراق المغلوب على أمره. فاليوم العراق يأن من الفقر والتخلف وانتشار الأوبئة، بل يتوقع خبراء النقد الدولي أنه سيعلن قريباً إفلاسه، خاصة مع تدهور الأسعار العالمية لسعر النفط. فلم يتبقَ شيئاً يذكر للسرقة؛ فأصبح بعدها الحكم هنالك عبئاً ثقيلاً بعد أن كان منجماً جاذباً، ولولا الحلم بالدولة الشيعية المترامية الأطراف التي تؤسس لها إيران ومرشدها بالإضافة إلى ملاليها وضغطهم الشديد عليهم لغادر كل أؤلئك الفاسدين العراق والتحقوا بعوائلهم ليتنعموا بالأموال الحرام قبل أن يقتص منهم شعبهم أو يداهمهم الموت والمرض والأسقام.
وما نرقبه اليوم من غليان سياسي وخلافات عميقة بدأت تطفو على السطح تحت مسمى «إصلاحات العبادي» ما هي إلا محاولة يائسة لتقليص نفوذ الحيتان وإزاحة الخصوم، فالقصعة لا تتحمل بعد كثرة الآكلين، وما النوبة المفاجئة التي داهمت عراب الاحتلال غير المأسوف عليه سيئ الصيت، أحمد الجلبي، إلا واحدة من نتائج تلك الصراعات، سواء كان سبب الموت قلقاً من القادم أم تصفية من الخصوم.
فقد كنز سحتاً من أفواه الفقراء ما لم يكنزه قارون، وتلطخت أيديه الآثمة بدماء العراقيين. وهو من أسس الطائفية بعد أن خلع رداء العلمانية ونادى بتأسيس البيت الشيعي، وهو من ترأس هيئة اجتثاث البعث ليحرم عشرات آلاف العوائل من لقمة العيش، وهو من صفى بعد ذلك الطيارين والعلماء والكفاءات، وتاريخه الأسود معروف في بتراء عمان وباقي البلدان وسجله مليء بالإجرام والخيانة والسرقات.
فكم هو من الصعب حقاً أن يداهم الموت أمثال الجلبي وباقي الفاسدين والطغاة، فلقد تفننوا في جمع المال بأنواعه من نقد وعقارات وحاملات نفط وفضائيات ويخت وبارجات وحسناوات وقصور فارهات، لو قسمت على فقراء العراق لكفتهم ولتنعموا بها سنوات.
ما أقسى لحظات النزع على أولئك المتجبرين العتاة وهم قد أيقنوا أن مصيرهم إلى حفرة ضيقة مظلمة وأنهم سيتركون وراءهم الكنوز ليتنعم بها غيرهم، وسيقبلون على الجبار ليكون كل درهم اقتطعوه من فم رضيع وكسوة يتيم وعلاج مريض جمرة تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. نحمد الله أن ما يجعلنا نصبر على ضنك الحياة أننا سنغمض أعيننا مثل غفوة النائم ونودع هذه الدنيا الفانية ولا نحمل وزر أحد، وجل ما سنورثه لا يتعدى بيت إسكان وبعض الخردة قد تكفي لإتمام العزاء وقبله الدفان.