هناك طرح نسمعه يدور في الأروقة الحكومية، بأن ما يقدمه تقرير ديوان الرقابة المالية جيد وممتاز من حيث الرصد ولكن المخالفات التي يرصدها ليست بذات «الخطورة» التي تصورها الصحافة، وأن هناك مبالغة وتهويلاً صحافياً بالتحديد وليس إعلامياً «التلفزيون خارج نطاق التغطية» في التعاطي مع التقرير، يصور الأمر وكأن هناك فساداً وسرقات وجرائم جنائية.
يعتمد هذا الطرح على أن الكثير من ملاحظات التقرير لا ترقى إلى الجريمة الجنائية أي لا تصنف ضمن نطاق الفساد إنما ضمن المخالفات الإدارية، بدليل أن العديد من القضايا التي أثارها التقرير السابق والتي أحيلت للنيابة العامة ثبت أنها لا ترقى إلى تصنيفها كجريمة، وبما أن العديد من الملاحظات التي يبديها ديوان الرقابة المالية للوزارات يتم الأخذ بها وتصحيحها حتى قبل صدور الديوان، وبما أن بعضاً من تلك الملاحظات مردود عليها مثلما حدث مع الأوقاف الجعفرية التي فندت الملاحظات التي خصتها، فبناء على ما تقدم لا داعي للضجة التي تثار في كل مرة في الصحافة وفي وسائل التواصل الاجتماعي على «تقرير» الكثير من نقاطه مردود عليها عند الوزارات والمؤسسات الحكومية.
بالنسبة لي تقدير الخطورة لا يقاس بأسباب «ضياع» قدر من المال العام إن كان فساداً أو إهمالاً، بل يقاس بحجم المال العام المهدور، وبما أن حجمها يصل كما قدر العام الماضي إلى 500 مليون دينار أي نصف مليار دينار، فإن التقرير يعد تلك المخالفات خطرة جداً جداً في ظل سياسة التقشف والترشيد المعمول بها الآن والتي يتحمل جزءاً منها المواطن.
بل والأكثر خطورة من هدر هذا المال التقليل من الخطورة، والأخطر من ذلك كله أيضاً أن التقرير الجديد والأخير والذي صدمنا لا بكم الأموال العامة المهدرة فيه إنما صدمنا أن الهدر حصل بعد تشكيل لجنة المتابعة، حصل بعد استنفار الحكومة وتحركها الحثيث والاجتماعات التي تلت ذلك والتصريحات التي أكدت على وقف الهدر وعلى متابعة ملاحظات العام الماضي، فيأتي هذا التقرير الأخير ليثبت أنه تحت سمع وبصر اللجنة حصل هدر وبدرجة قد تفوق ما جرى في السنة السابقة، فمن خلال رصد أولي غير مكتمل تم احتساب 220 مليون دينار لم تكن مخالفات الشركات الكبيرة من ضمنها «على سبيل المثال احتسب 90 مليون دينار أموالاً مهدورة العام الماضي على الغاز المحروق» تلك هي الأزمة والقصة والمأساة الآن، وبهذا المقياس فإنني أعتبر أن هدر الأموال العامة وصل إلى درجة خطيرة، فإن كانت اللجنة مازالت معقودة والهدر يجري مستمراً فلمن نلجأ إذاً؟ وإذا كان الطرح الحكومي أن التقرير السابق كان يبالغ في القياس، فماذا نقول عن التقرير الحالي إذاً؟
وحقيقة لست معنية بالدرجة الأولى بالمحاسبة أو المعاقبة الآن، ما يهمني هو وقف النزيف أولاً، حين يكون بين يديك شخص ينزف من الوريد أولويتك هي وقف النزف ثم البحث عن الأسباب ومعالجتها.