أشاعت لقاءات فيينا انطباعاً بأن قطار تسويةٍ سياسيةٍ ما في سورية وُضع على السكة. لا شيء مؤكد. ربما يحمل اللقاء التالي بعض الوضوح للنيات كما للسياسات. في المحاولة السابقة في جنيف (2014) كان الظن السائد أن «التفاهمات» الأميركية - الروسية كفيلة بصنع اختراقات، إلى أن انكشفت وتدهورت، ثم أعيد تأهيلها، لكن حسابات كلٍ من الطرفين تغيرت. وما أوحى بـ «الجدية» هذه المرة أن أميركا وروسيا تريدان استمالة السعودية وتركيا إلى «التفاهمات» استناداً إلى «فرصة» تتمثل بأن موسكو أصبحت متورطة على الأرض السورية وأنها فتحت ملف «الحل السياسي» وباتت مستعدة لاستدراج تنازلات من بشار الأسد، لكن مقابل استمراره لفترة محدودة، بذريعة أن بقاءه يساعد في تنفيذ أي اتفاق يمكن التوصل إليه. كانت واشنطن موافقة دائماً على هذه الصيغة مشترطةً الاتفاق على «هيئة حكم انتقالي»، وفقاً لبيان «جنيف 1»، غير أن الرياض واظبت على الدعوة إلى «رحيل الأسد» ثم تعاملت ببراغماتية مع فكرة «الفترة المحدودة» إذا توافرت ضمانات لها ولصلاحيات الحكومة الانتقالية.
عشية اللقاء الموسّع السابق في فيينا، عُقد اجتماع رباعي تمهيدي (29/10/2015) وكان صعباً، بل ساخناً إلى حدٍ ما، إذ بدا جون كيري وسيرغي لافروف متفاهمين على ضرورة الإقلاع بالحل السياسي في أي شكل. لكن الوزير الروسي لم يكن مقنعاً لنظيريه السعودي والتركي اللذين وجدا أنه لم يحمل أي جديد بخصوص «مصير الأسد» وأن الاقتراحات الأخرى تنطوي على تراجع مبطن عن صيغة جنيف والحكم الانتقالي. وذُكر أن لافروف غادر الاجتماع من دون انتظار توافقات محددة، لذلك طرح كيري منهجية تضمن استمرار «عملية فيينا»، إذ تشير إلى وجود خلافات مع تحديد للمبادئ العامة المتوافق عليها، وقد ظهرت تلك المبادئ في البيان المشترك (وحدة سورية واستقلالها ووحدة أراضيها وطابعها «العلماني»، المحافظة على مؤسسات الدولة، حماية حقوق السوريين أياً تكن أديانهم وإثنياتهم، تسريع الجهود الديبلوماسية لإنهاء الحرب، زيادة الدعم الإنساني للمهجرين في الداخل وللدول التي تؤوي النازحين، ضرورة هزم «داعش» والتنظيمات الأخرى التي يعتبرها مجلس الأمن الدولي إرهابية)...
لم يكن متوقعاً أن يعترض أحد على هذه المبادئ. وهي رغم أهميتها لم تعد تعني شيئاً منذ زمن، فالنظام احتقرها طوال عقود تسلطه ثم جهر باحتقاره للشعب بفئاته كافة عندما قاده إلى صراع أهلي لضمان بقائه في السلطة. لكن هذه المبادئ شكلت مخرجاً لتفادي فشل معلن للقاء فيينا الموسع، كما تضمن البيان نوعاً من خريطة طريق إلى حل يبدأ بوقف لإطلاق النار ويستند إلى «جنيف 1» (يرفضه النظامان السوري والإيراني) وتتولى فيه الأمم المتحدة جلب ممثلين عن «الحكومة السورية» والمعارضة إلى عملية سياسية تفضي إلى «حكم ذي مصداقية، غير فئوي، ويشمل الجميع» وتلحظ إعداد دستور جديد وانتخابات تشرف عليها الأمم المتحدة وتجرى «بأعلى معايير النزاهة والشفافية» وبمشاركة الجميع بمن فيهم سوريو الشتات...
هذه «الخريطة» لا تختلف في جوهرها عما كان مطروحاً في مفاوضات جنيف (شباط/ فبراير 2014) التي أفشلها النظام مصراً على اتفاق على محاربة الإرهاب (بقيادته) قبل التطرق إلى الترتيبات السياسية. واقعياً كان يريد مجالسة معارضين آخرين لا ليفاوضهم بل ليملي عليهم شروطه وإرادته. أما محاربة الإرهاب، فالسيناريو الاميركي لا يلحظ لها دوراً فيها، فيما يبدو السيناريو الروسي معنياً بإعادة تأهيل الجيش وليس النظام لكنه يتعثر لأنه لم يعثر على الجيش الذي يعرفه. وأما بالنسبة إلى الجانب السياسي، فاعتقدت روسيا أن الخطة التي اقترحها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، ولم تلق اعتراضاً، مهدت الطريق لتشكيل وفود المعارضة بالطريقة التي اتبعت للقاءات موسكو والقاهرة واستانة (عاصمة كازاخستان) وكانت غالبية المشاركين فيها من المعارضين الموفدين من جانب النظام، فضلاً عن أفراد من «معارضة الداخل».
ليس معروفاً من أين جاءت موسكو وطهران ودمشق بفكرة التحكم المسبق بأي مفاوضات من خلال التلاعب بتمثيل المعارضة، بل كيف اقتنعت نفسها بأن هذه الطريقة يمكن أن تنهي الصراع وتقيم السلام وتأتي بـ «الحل السياسي» المنشود، أي الحل الذي يبقي النظام من دون أي تغيير جوهري، وبموافقة «من حضر». وقد استدرجت الأطراف الثلاثة دي ميستورا راضياً إلى هذا المنطق، وافترضت غباءً مستحكماً بالأطراف الأخرى يستحيل معه أن تكتشف حتى الخداع المكشوف. ولعل الجدل الذي افتعلته يرمي عملياً إلى إقصاء المعارضة الحقيقية، ذاك أن موسكو تطالب بتحديد ما هي المعارضة «المعتدلة» لتعرف كيف يمكن تمثيلها، وفي عُرفها أن كل من حمل السلاح ضد النظام ليس «معتدلاً» أي ليس مؤهلاً لأن يكون جزءاً من الحل. لكن عليها، قبل ذلك، أن تحدد طبيعة النظام الذي تسانده وتعتبره ركيزةً للحل، أهو معتدل أو متطرف، أهو وسطي أم إجرامي متوحش؟ لا شك في أن العالم، عدا استثناءات محدودة، أوضح موقفه من هذا النظام. ولا يمكن نظاماً منبوذاً مثله ولا حلفاءه أن يحددوا من هو مقبول أو غير مقبول في التفاوض على مستقبل سورية.
الأكيد أن المعارضة لم تستطع أن تبلور كياناً واحداً لتمثيلها، لكن لوحظ في الأسابيع الأخيرة أن الولايات المتحدة وروسيا أعادتا، كلٌّ لأسبابها، اكتشاف «الجيش الحر»، فهو الأكثر تعبيراً عن المعارضة والأقرب إلى مواصفات «الاعتدال». في الأعوام الأربعة الماضية، تعامت واشنطن عن ضرورة تسليحه ليبقى الفصيل الأكبر والأقوى، وأدى إهماله وعدم دعمه إلى استضعافه وبالتالي إلى تشظيه وتوزع ضباطه وجنوده على سائر الفصائل. لكن الاميركيين يريدون الآن الاعتماد عليه لمحاربة «داعش»، ويسعى الروس إلى استعادته إلى صفوف الجيش لكن الطريقة التي يتبعونها تنفره بدل أن تقربه، فحتى الضباط الذين انشقوا ولم يشاركوا في قتال النظام ولا يمانعون في العودة إلى الجيش لم يعودوا راغبين في العودة إلى جيش بإمرة الأسد وزمرته. في المقابل، يبدو أن الولايات المتحدة تذكرت أيضاً أن «الائتلاف» المعارض لا يزال موجوداً، ورغم أن «أصدقاءه» قطعوا عنه كل تمويل أو مساعدة منذ ما يقارب العامين. ومع اقتراب استحقاق التفاوض، يتبين أن «الائتلاف» عاد يمثل رقماً صعباً لا يمكن تجاهله، فأي مفاوضات من دونه لن تحقق أهدافها، إذ إنه ارتبط بالفصائل المقاتلة وهي ارتبطت به، حتى لو لم يكن بينه وبينها تحالف معلن ومحسوم.
في أي حال، وقبل البحث في المعارضة، فليحسم الحلفاء الثلاثة (روسيا وإيران ونظام الأسد) خلافاتهم، لأن لكلٍ منهم مقاربته للحل السياسي ولما يجب أن يسبقه ميدانياً. إذ إن التنسيق العسكري بين روسيا وإيران لا ينطبق على الجانب السياسي. وقد انتقد قائد «الحرس الثوري» محمد علي الجعفري روسيا في شكل مباشر، وقال أن «بقاء الأسد» لا يهمها كما يهم إيران. وبعد شهور من الترويج الأميركي - الروسي لإيران كطرف فاعل ومساعد في حل أزمات المنطقة، يتضح للمعنيين الآن أنها بوجهين ولسانين وأن هناك توزيع أدوار بين أجنحتها. فإيران روحاني تحضر لقاءات فيينا بصفتها «معتدلة» وإيران الجعفري تحرض الأسد على التشدد في شروط، وإذ أبدت الأولى قبولاً ولو بالمناورة لبيان فيينا الذي يتبنى صيغة حكم انتقالي مستوحاة من بيان «جنيف 1» فإن موقف الثاني، أي «الحرس»، يظهر من خلال تصريحات فيصل المقداد، نائب وزير خارجية النظام، الذي يرفض فكرة المرحلة الانتقالية ويجدد طرح «توسيع حكومة» النظام وتعديل الدستور. إذاً، فوجود إيران إلى طاولة المساومات لم يخرج عن إطار المتوقع منه، فهو يهدف إلى توجيه أي تسوية أو إلى تعطيلها حتى لو اقتضى ذلك تصعيداً ميدانياً. وإذ باتت الخلافات تدب بين الحلفاء الثلاثة فلأنهم تيقنوا بأن ثمن أي تسوية دولية سيكون باهظاً سواء ساوموا على بقاء الأسد أو على رحيله.
- عن جريدة «الحياة»