لعل من أكبر نكبات الربيع العربي هي محاولة إسقاط الحاكم والبقاء على الحكم، والأكثر بؤساً من كل ذلك تكشف إفلاس غالبية المعارضات السياسية لأنظمة الحكم في الوطن العربي من امتلاكها أي مشروع سياسي يمكن أن يرضي طموح الشارع العربي.
لقد أصبحت «المعارضة السياسية» في أوطاننا من أجل المعارضة فقط، ومن يقول غير ذلك فهو يخدع نفسه ويخدع معه الجماهير «الخائبة»، فكل من فشل في إيجاد «مشروع سياسي» -ولا نريد أن نقول «مشروع دولة»- أصبح اليوم «مشروع معارضة»، ومن هنا بات الباب مفتوحاً على مصراعيه لدخول الكثير من غير السياسيين إلى عالم السياسة، بل هناك الكثير من المراهقين والأغبياء من استلموا زعامات سياسية، إما لأجل الظهور أو من أجل تغطية فشلهم في طرح مشروع سياسي يتناغم مع متطلبات الحكم.
نحن ضد معارضة المعارضة، فنحن لو كنا كذلك، فسنكون نسخة طبق الأصل من المعارضات الحالية، لكننا نؤكد على أهمية أن تمتلك المعارضة السياسية مشروعاً لبناء دولة حديثة تقوم على الحرية والمساواة والديمقراطية، وليس مشروعاً لإسقاطها فقط، فإسقاط الأنظمة ربما يكون أسهل بكثير من مرحلة مابعد السقوط، ألا وهو امتلاك المعارضين لمشروع إستراتيجي يحمل في رحمه مقومات الدولة والنهوض بها.
لهذا نحن ننصح المعارضة السياسية على طول الوطن العربي وعرضه بعدم محاولتها إسقاط النظام أي نظام، ولو كان نظاماً فاسداً، إلا إذا كانت تمتلك مشروعاً أفضل مما تم إسقاطه، لأن إسقاط النظام وعدم وجود ما يسد مسده يعني أنك خلقت فراغاً سياسياً هائلاً، وهذا أخطر ما يمكن أن يناقش في هذا الأمر.
الفراغ السياسي أو ما يسمى»فراغ السلطة» هو من أكبر المحاذير الخطرة في حال سقط النظام -أي نظام كان-، ومن هنا يجب أن تكون المعارضة -نكرر هنا أي معارضة كانت- على وعي بأهمية امتلاكها المشروع الذي يمكن أن يسد الفراغ الحاصل من جراء سقوط الحكم، وهذا لم نجده قد تحقق في كل الدول التي خاضة تجربة الربيع العربي المشكوك في شرعيته أصلاً، باستثناء «تونس»، على الرغم من وجود بعض التحفظات حول طبيعة انتقال الحكم، لكنها تظل أفضل تجربة لمعارضة سياسية عربية على أقل التقديرات، إذ استطاعت أن تتدرج في مسألة ملء الفراغ السياسي بطريقة سياسية وليس بطريقة غوغائية.
لا يمكن أن نبرر للأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، لكن لا يمكننا أيضاً القبول بدكتاتوريات جديدة تحمل صفة «المعارضة»، ربما تخلق من الأزمات والويلات ما لم تخلقه الدكتاتوريات السابقة لها.
إذا لم تمتلك المعارضات العربية مشروعاً سياسياً ديمقراطياً رزيناً يملأ الفراغ المحتمل لسقوط الحكم، حينئذٍ يجب عليها تأجيل فكرة إسقاط الحكم حتى تمتلك مشروعها الذي يثبت وجوده في ظل فوضوية السلطة التي سبقتها، وأن يكون إسقاط النظام لو تكشَّف زيفه، عبر آلية ديمقراطية صِرفة أو عبر صناديق الاقتراع وليس عبر شلالات الدم والخراب، وإلا سيظل مشروع إسقاط الحكم، محاولة فاشلة لاستنساخ تجربة سياسية لا تقل في بشاعتها عن نظام سابقٍ لو ظل، لربما تستطيع أن تسير في شوارع وطنك بطريقة أكثر أمناً من نظام لا يملك سوى «الفراغ السياسي» القاتل.
إن ابتعاد النخب السياسية من أصحاب الخبرة والنضال السياسي في وطننا العربي من تسنم مراكز القرار داخل الدولة أو خارجها -المعارضة-، أفسح المجال للعابثين والمراهقين الانفعاليين من تصدر المشهد السياسي للمعارضات العربية بطريقة ظلامية وغامضة، قد تكون أشد دكتاتورية من أسلافها.