خذوها قاعدة إدارية إنسانية حياتية.. سموها ما شئتم، هي تنطبق على الدولة وعلى العمل وعلى البيت أيضاً، وتتفرع وتتشعب، مفادها بأنه لا يمكن إطلاقاً «إدارة بشر» أو «خدمة بشر» لا «نكلف» على أنفسنا الاستماع لهم.
المشكلة تكون، حينما يصم آذانه، أو يكون واضحاً تجاهله، من يفترض أنه الحريص على معرفة رأي الناس وانطباعاتهم، وتدوين أفكارهم، وسبر مختلجاتهم، على اعتبار أن «صميم عمله» يقتضي بل يعلن عنه بصراحة أنه «يعمل من أجل صالح الناس».
لذا هي قاعدة لا يختلف عليها، وطبقوها بشكلها المبسط، اختبروها في بيوتكم أولاً لتدركوا مدى التأثير. إذ كيف يمكنك كرب أسرة أو مسؤول عن عائلة أن تحقق الرضا داخل بيتك إن لم «تكلف» نفسك عناء الاستماع لأفراد أسرتك؟! كيف ستحل مشكلاتهم إن لم تسألهم عنها؟! كيف ستعلي من معنوياتهم، وتزرع لديهم الأمل، إن لم تعرف ما يسبب لهم الإحباط ويخلق لديهم اليأس؟!
وعلى نفس المقياس البسيط، لكن المؤثر بقوة في ذات الوقت، يمكن ترجمة المعادلة على كثير من القطاعات، لكن تظل أخطرها قطاعات الدولة التي غالبها ما يعلن كـ»شعار رنان» له أنه يعمل من أجل «خدمة المواطن».
وهنا نسأل: كيف ستخدمون المواطن وأنتم لا تستمعون له؟! بل تصدون أبوابكم عنه؟! كيف تحلون مشاكله وأنتم تصنفون كلامه ورأيه وانتقاده وتعبيره عن همومه على أنها «تحلطم» و»تذمر»؟!
وهنا للاستدراك حتى لا نخلط الحابل بالنابل، الكلام أعلاه يوجه لمسؤولين بعينهم، تاريخهم المهني، وعمرهم الزمني في مواقع المسؤولية، وإن كان بعضهم ذا عمر زمني قصير، يشهد عليهم أنهم «ألغوا» الطرف الأهم في المعادلة المعنية بأية عملية، وأعني هنا «المواطن».
أقرأ في إحدى دراسات جامعة «هارفارد» التي تتحدث عن ضرورة الاستماع للناس ومعرفة آرائهم، سواء أكان بهدف «التعامل معهم» وهو هدف إيجابي، أو بهدف «السيطرة عليهم» وهو هدف مركب معقد «ضبابي» في مبرراته، كلاماً كثيراً من مسؤولين كبار في قطاعات صناعية وشركات وحتى مواقع حكومية حساسة اتفقوا في خلاصته أن: «الأخطاء التي وقعوا فيها، وبعض السياسات التي مضوا فيها، وبعض القرارات التي أخذوها، كان يمكن تجنبها -على مستوى الأخطاء- وكان يمكن تحسينها وضبطها -على مستوى القرارات والسياسات- فقط لو أنهم استمعوا للناس». إن كنت في موقع مسؤولية تقول من على منبرك إنك «تعمل لخدمة الناس»، فإن عليك أولاً أن «تستمع للناس»، وهنا الاستماع لا يكون بمثابة «الطفرة الوقتية»، بمعنى ألا يكون فقط في بداية استلام المسؤول لمنصبه، أو حتى النائب -كممثل للشعب- لموقعه، ولا بأن يكون لرغبة في الظهور الإعلامي وتقديم النفس سواء للقيادة العليا أو حتى إيهام بقية الناس بأن هناك «آذاناً صاغية» تستمع على مدار الساعة للناس.
لدينا تجارب عديدة وأمثلة كثيرة على مسؤولين لا يقيمون لرأي الناس وزناً، بل لا يكلفون على أنفسهم معرفته، مع ردة فعل «عصبية عنيفة» تجاه أي نقد أو مطالبة أو اتهام بالتقصير أو حكم بفشل العمل، في المقابل قليل من يستمعون للناس، بل يهتمون بمعرفة رأيهم.
خبراء الإدارة في المجتمعات المتقدمة يؤكدون دائماً أن «رأي الناس» و»مطالبات الشارع»، كلها أدوات يمكن الاستفادة منها في رسم السياسات، وفي توجيه مسار العمليات في القطاعات. طبعاً العملية تحتاج لـ»فلترة» تقوم على مبادئ علمية تحدد نقاط القوة، وتوضح المشكلات بشكلها الصريح وتستحضر حلولها، فالقاعدة هناك تقول إنك «إن لم تستمع لآراء الناس، كيف يمكنك بالتالي أن تعمل لتحقيق الرضا لديهم، من خلال تحقيق مطالبهم وتطلعاتهم»؟!
العملية لابد وأن تكون تبادلية، لا ينفع إطلاقاً أن نخرج على الناس في تصريحاتنا ونقول لهم «نعمل لأجلكم»، في الوقت نفسه «نغلق آذاننا عن سماع رأيكم»! ولذلك نرى نسبة الاستياء لدى الناس تزيد، نرى ظاهرة «التحلطم» -التي يصفها بعض المسؤولين بهذا الوصف تحديداً- تتضخم، والواقع أن ما جعلها تتضخم هم بعض المسؤولين أنفسهم، هم من أجبروا الناس عليها، إذ حينما «تصم آذانك» عن الشريحة المفترض بك خدمتها، سيتعاملون معك برفع الصوت وحتى الصراخ، سيتعاملون معك باقتناع أنك كمسؤول مصنف تحت بيت الشعر الشهير «لقد أسمعت لو ناديت حياً، ولكن لا حياة لمن تنادي»!
استمعوا للناس وابنوا استراتيجياتكم وخططكم من وحي كلامهم ومطالباتهم، لكن أن تصموا الآذان عنهم، وتعملوا بأسلوب «نشوف شيء ما تشوفونه»، حينها لا تدعوا زوراً أنكم «تعملون لأجلهم»!