إذا أردت أن تقيم أمة فاعرف من هم رموزها الذين يتصدرون المشهد الثقافي والسياسي والاقتصادي. وإذا أردت أن تقيم حركة أو حراكاً فاسأل عن قادته ومريديه. وليس من أداة أسهل من وسائل الإعلام في الوطن العربي لتتعرف على رموز الأمة العربية في هذا الزمن. وليس خفياً أن الغالبية الساحقة إن لم يكن جميع وسائل الإعلام هي مجيرة لصالح اتجاه ما أو حزب ما أو حكومة ما أو رجل أعمال ما. وأنها تفتقد للموضوعية والمهنية والمنهجية وأنها صارت أداة قوية في إدارة الصراع في المنطقة تتجاوز في قوتها نيران الطائرات والبارجات والدبابات. مرحلة التغيير القاسي التي يشهدها الوطن العربي بدأت إرهاصاتها مع مطلع القرن الحادي والعشرين. ثمة تحول ثقافي واضح بعد أحداث 11 سبتمبر 2011. تمثل في اتساع رقعة السطحية، الموجودة سابقاً طبعاً، في المشهد الثقافي وتواري الفكر والمفكرين من الصدارة. وقد ساهم التطور الهائل في وسائل الإعلام في تصدير السطحية والضحالة الفكرية وتهميش الجوانب الفكرية والفلسفية والعلمية. من هم رموز القرن الحادي والعشرين في الوطن العربي؟ ببساطة شديدة، هم الفنانون السطحيون ولاعبو كرة القدم وخبراء التنمية البشرية الذين أوهموا شباب العرب طويلاً أن بإمكانهم أن يصيروا مثل خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي ومثل بل غيتس وإديسون ونيوتن لو خلقوا الإحساس بداخلهم بأنهم كذلك فعلاً. وتصدر المشهد أيضاً بعض مشايخ الدين «الحكواتيين» من الشباب أصحاب الطلة اللطيفة. أين هم الأدباء والمثقفون والكتاب والنقاد والفلاسفة والمبدعون وعلماء الجيولوجيا والبيولوجيا والفيزياء والطب في الوطن العربي من المشهد الثقافي؟ ليس لهم إلا زاوية ضيقة في البرامج التلفزيونية وفقرة قصيرة في الصفحة الثقافية الأسبوعية أو الشهرية من المطبوعات اليومية. وتعرض لهم الدوريات الثقافية دراسة أو اثنتين قبل أن تعلن تلك الدوريات إفلاسها وتضطر للإغلاق. لقد تمكنت الأيدي التي تدير أجهزة الإعلام من تحويل الثقافة والفكر إلى مادة ثقيلة ومملة ليس لها إلا الجامعات والمعاهد، وتمكنت من الترويج للضحالة في مختلف المجالات، فأسست قطاعاً غير بسيط من الجيل الناشئ اتسم بالاستهلاكية وسرعة السأم وضحالة التفكير والتشويش في تلقي القضايا ومعالجتها.
هكذا كان المشهد قبل حراك ما يسمى ربيعاً عربياً. أما أثناءه فقد تصدر المشهد شباب محبط متعلم لكنه «متوسط» الثقافة وليس لديه أكثر من الأحلام والطموح والشعارات الفضفاضة والجذابة. وتمكن هؤلاء الشباب من قلب الوضع العربي رأساً على عقب في بعض البلدان. ثم دارت دائرة السوء عليهم بسبب تردي الوضع بعد تلك الانقلابات. ليتصدر المشهد بعد تلاشي نشطاء الربيع العربي من المشهد مجموعة من الشخوص يستدعي وجودها الشعور بالقلق وبالخطر. من يتابع الأحداث في الدول العربية المأزومة سوف يجد أن النخب الثقافية قد تم إعدامها إعلامياً. فضلاً عن عجزها الذاتي وعدم قدرتها على تحدي الواقع ومواجهة الأزمات التي تمر بها الأمة. من يتصدر المشهد الآن في تلك الدول هم في الغالب إعلاميون سطحيون ورجال أعمال لهم مصالح مع العهد الجديد أو يريدون إعادة العهد السابق. ومجموعة ممن صاروا يعدون أنفسهم ثوريون ومقاومون ومناضلون بعضهم أنصاف متعلمين وذوي ثقافة مشوهة تميل خطاباتهم نحو الانتقام والتصنيف والتفتيت والتأزيم. هكذا صار يصنع الوعي في الوطن العربي منذ خمسة عشر عاماً. حالة من الفوضى والتضليل وتشويه الوعي. وابتسار للشعارات التحررية واعتساف في توجيه قيم المقاومة والوطنية والوطن. وخطورة الوضع تكمن أن ثمة خلل جعل هؤلاء في موقع المتحكم بالمصير والقادر على رسم خريطة الواقع، وإن كان محدوداً. إن أمة يقودها مجموعة من المنفلتين ودعاة الثأر والانتقام من كل ما هو مخالف وأصحاب المصالح الشخصية الضيقة والمرتهنين للمشاريع الخارجية هي أمة، لا محالة، تسير نحو حتفها. ولا يملك المتابع لسير الأمور في الوطن العربي إلا أن يقول اللهم سلم.