أمضيت ليلة ولا أروع في قلعة الرفاع لا تقل روعة عن أي ليلة يقضيها السائح في أي دولة أجنبية تعرف كيف تقدر وتحتفي بتاريخها وتستثمره استثماراً سياحياً، يأكل طعاماً طيباً ويستمتع بجو جميل ويستمع لموسيقى تراثية، ولو أردت أن تعرف بالبحرين دون أن تنطق بحرف دعه يمضي ليلة كهذه في مكان كهذا في برنامج كالذي أعدته الشيخة مي بنت محمد.
ما الذي ينقصنا؟ حيث التاريخ كان حاضراً حياً أمامنا يحكي وجهاً من وجوه المملكة، لنظام امتد حكمه أكثر من 200 عام، أي أطول من تاريخ تأسيس دولة كالولايات المتحدة الأمريكية، موقع يحكي قصة الحكم بمتحفه العسكري وقلعة شهدت معارك صد بها الحكم عدواناً لم يتوقف طمعاً في هذه الجزيرة الصغيرة.
قلعة أضيئت أروقتها بالشموع لتدل الضيف وتقوده بمسارها إلى مقهى «زعفران» الذي احتل الجزء المطل على الوادي، هنا حكاية تروى عن مملكة قاومت الغزو والاحتلال ومحاولات السيطرة وإقامة دولة مازالت حية تحكي قصة كفاحها المستمر حتى اللحظة بصد هجمات الطامعين، ألا نفخر بهذا التاريخ ونعرضه أمام زائرينا؟ مع الأسف نحن دولة لا تعرف كيف تقدر تاريخها.
وما إن حل الظلام وأضيئت القلعة تلك الإضاءة التي وزعت توزيعاً مدروساً يظهر البرج ومعه علم البحرين وجدت نفسك تقف أمام لوحة رسمها فنان يلعب في الضوء والظل فيعرف كيف يبرز تقاطيع الأشياء فأبرزت جماليات المكان كموقع مرتفع على تل يمنحك رؤية بنورامية على مدينة الرفاع وأضوائها تأتيك من بعيد على يمينك، أما على يسارك فسكون الوادي المرتفع بهيبته.
أين نحن من استثمار مثل هذا الموقع سياحياً؟ أين نحن من تعريف العالم بمملكتنا وتاريخها؟ أليس هذا ما تفعله كل الدول التي لديها مثل هذا الموقع التاريخي؟ لقد كانت ليلة ستكون ساحرة لأي ضيف عربي كان أو خليجي أو أوروبي أو من أي جنسية سيكون، الجو كان روعة، والمنظر، والبعد التاريخي حاضرين، وفرقة محمد بن فارس أحيت الليلة بأغانينا التراثية والطعام كان بحريني النكهة من مقهى تشرف عليه ناريس ابنة نبيل قمبر لتحول كل ثمرة بحرينية إلى طبق عالمي... أين السياحة عن ليال بحرينية دولية بجدارة كهذه؟
ألا نملك عدداً من الآثار وكم من التراث وروحاً بحرينية تصلح أن تكون مصدراً من مصادر زيادة الدخل؟ لم لا تتضافر الجهود والمؤسسات والوزارات وتضع البحرين أمامها وتتغاضى عن صغائرها وخلافات، والله لدينا مقومات لسياحة الآثار ممكن أن تدخل علينا ذهباً.
طيران الخليج على سبيل المثال مؤسسة وطنية بإمكانها أن تساهم، ألا تذهب رحلاتنا إلى موسكو على سبيل المثال وتعود شبه خالية؟ لم لا تمنح تذاكر مخفضة أو حتى مجانية للروس -إلى فترة ما- وتنظم طيران الخليج مع أحد الفنادق أو أكثر رحلات سياحية مدتها أربعة أيام وثلاث ليال مثلاً، تتفق فيها مع هيئة الآثار والثقافة ووزارة السياحة لعمل (باكجات) يقضيها السائح نهاراً متنقلاً بين تلك المواقع الأثرية والبيوت التراثية والأسواق الشعبية وليلاً يقضون أمسيات ولا أروع في تلك الربوع الخلابة، قلعة عراد أو قلعة البديع أو قلعة الرفاع، أو غيرها مما تملكه البحرين من مقومات تنظيم العروض الموسيقية كمكان وجو خاصة في الشهور الخمسة من نوفمبر إلى نهاية أبريل، كم فندقاً سيستفيد؟ كم سائق تاكسي؟ كم شركة للنقل؟ كم مطعماً؟ كم محلاً تجارياً؟ كم مزوداً للخدمات؟ ووووو لدينا حضارة تمتد إلى 5000 سنة قبل الميلاد ذلك كنز وبئر لا ينضب ولا يتعرض لتذبذبات السوق، مواقعها تغري سواح الآثار في كل مكان، لدينا المتحف وتلال عالي ومقابرها، ولدينا البيوت التراثية التي تحكي قصة الإنسان البحريني، ولدينا طريق اللؤلؤ الذي يحكي رواية الدانة البحرينية، لدينا باب البحرين وسوق القيصرية، هذه المواقع إن وضعت ضمن (باكجات) سياحية جوية وبحرية، بإمكانها أن تستقطب مئات الآلاف من السواح في هذه الأشهر كل (باكج) مدته لا تقل عن ثلاث ليال، لو عرفنا كيف نسوقها وكيف نعد أنفسنا لاستقبال هذه الشريحة من السواح، فالسائح الخليجي به متطلباته، إنما سياحة الآثار لها شرائح أخرى البحرين لم تستفد منها إلى الآن، فقط نحتاج إلى أن نجتمع على قلب واحد ونتذكر البحرين أولاً وقبل أنفسنا وقبل زعاماتنا وقبل خلافاتنا.
كلنا تحسرنا على فرصنا الضائعة ونحن نتعشى فوق التلة في قلعة الرفاع تلك الليلة، كم مؤتمراً وكم منتدى وكم ملتقى جرى في البحرين؟ هل استغلت هذه المناسبات للترويج للبحرين كموقع سياحي أثري؟ نحتاج أن (نعزم) وزراءنا في هذا الموقع في ليلة قمرية كتلك ليروا البحرين بعيوننا كما رأيناها تلك الليلة وليعرفوا أنهم يرتكبون جريمة في حق البحرين حين يكون عندنا ضيوف من خارج البحرين ونقيم لهم المآدب في فنادقنا وفي قاعاتنا المغلقة ونتجاهل أجمل ما نملك.. البحرين.