الحروب والاضطرابات التي تدور في منطقتنا الآن جميعها تعتلي صهوة الدين شئنا أم أبينا، وسواء كانت هناك مؤامرة على المنطقة أو لم تكن، فإن قادة جميع هذه الاضطرابات بشكل أو باخر هم رجال يعتلون المنبر الديني وينشغلون بالسياسة. حروب مطيتها «رجال دين» باعوا أوطانهم ونشدوا السلطة، فهذا خليفة وذاك نائب له، وهذا ولي فقيه وذاك وكيل له، وهذا مرشد عام وذاك مرشد أعلى هم ووكلاؤهم دمروا المنطقة، والبحرين لم تكن استثناء.
شعوبنا العربية مازالت ترى في رجل الدين عصمة أو تراه يمثل قول الله عز وجل وتتبعه مخطئاً أو مصيباً تقوى لله وطاعة «لأولي الأمر»، ويربى جيل من أبنائنا على مقولة لحوم العلماء مسمومة لا يجب التحدث عنهم بسوء، لذا فإن تبعية شرائح كبيرة من مجتمعاتنا لكل من يعتلي المنبر الديني تبعية تكاد تكون «عمياء» وكون هناك رجال دين يخافون الله في الناس ولا يضللونهم، فإن التشريع لا يسن لمن يتقي الله برادع ذاتي، إنما القوانين تسن لردع من لم يردعه ضميره.
وأفهم أن يمتنع أو حتى يرفض عضو شوري كالشيخ الفاضل عادل المعاودة أو أي عضو شوري آخر يعتلي المنبر الديني، أفهم أن يرفض مقترح قانون حظر الجمع بين المنبرين «الديني والسياسي» لأنه حظر قد يمسه مباشرة وقد يسري عليه مستقبلاً، ويجبره لاحقاً على اختيار أحدهما والتخلي عن الآخر إن أراد الانضمام أو تأسيس جمعية سياسية.
ولكنني حقيقة لم أفهم دواعي وأسباب ومبررات بقية الأعضاء الذين رفضوا المقترح، ولم يقنعني المبرران اللذان تداولهما المعترضون، الأول أن الدستور أو قانون الجمعيات يغطي هذا الحظر، لأن ذلك غير صحيح إذ ليس هناك نص يحظر الجمع بين المنبرين، النص الموجود في قانون الجمعيات يحظر منع قيام «جمعية» على أسس طائفية، أي حظر تأسيس جمعية تضم طيفاً واحداً فقط من أطياف المجتمع، وهذا النص لا علاقة له بهوية العضو وعمله وامتهانه الخطابة في المنابر الدينية.
أما العذر الثاني بأنه إذا كانت الدولة عاجزة عن تنفيذ وتطبيق الحالي من القوانين فلم نسن الجديد منها؟ فذلك والله عذر لا يليق بمن هم في سلطة تشريعية، فلو كل سلطة تعذرت عن القيام بمهامها لأن السلطة الأخرى متقاعسة فتلك مصيبة!
وهناك أعذار ألقيت هنا وهناك أثناء المداخلات مثل لم يمنع على المنبر الديني التدخل في السياسة؟ ولا يمنع عن المهندس أو الطبيب أو الرياضي، الغريب في هذا الطرح أن من يستخدمه شرع وقنن بل وصوت وبصم ورضي بقوانين منعت منابر أخرى عن الانشغال بالسياسة كالمنبر الرياضي أو الثقافي أو التعليمي، وحين جاء الدور على المنبر الديني أراد أن يمنحه استثناء.. ما لكم كيف تحكمون؟
أما عن القول بأن هذا القانون هو تمهيد لفصل الدين عن السياسة في البحرين فإن من استخدم هذه المقولة التي تدغدغ مشاعر العامة وتثير هواجسهم ومع الأسف انساقت بعض الصحف لها ووضعتها عنواناً فإنه يلعب ويضرب تحت الحزام، ومن يطرحه يعرف أن ذلك غير صحيح، فالدستور يحمي الدين بنص المادة وأن الحريات الدينية مصانة لم تمس، كل ما في الأمر أن المنشغل بالسياسة يجب أن يتحلى بالأخلاق والقيم الدينية السماوية السمحاء، لكن عليه ألا يعتلي المنبر الديني فتصبح آراؤه السياسية فرضاً دينياً، إنه مقترح يمنع إساءة استغلال الدين ولا يفصله عن الدولة وعن السياسة، إنه لا يمنع رجل الدين من ممارسة حقوقه السياسية، لكن يمنع من اعتلاء المنبر الديني حين يقرر أن يكون عضواً في جمعية سياسية أو يؤسسها.
لا يجوز الاحتماء بهذه الأدوات التي تثير الهواجس وتلعب على تهييج مشاعر الناس في جدالك ودفاعك عن وجهة نظرك وإلا أجزت لخصمك السياسي أن يلعب بذات الأدوات غير الصحية، ويفتح عليك باب «وعاظ السلاطين» وكيف يغتني الوعاظ من تدخلهم في السياسة!! فليغلق باب الغمز واللمز حتى يرقى الجدل ويرقى معه النقاش ونصل إلى نتيجة تخدم الصالح العام.
أما عن المقترح بحد ذاته، فصحيح أنه لن ينهي هذه الإشكالية وصحيح أنه بالإمكان التحايل عليه كما تم التحايل على بقية القوانين، ولكن وظيفة التشريع هي الحد من المخاطر إن لم يتمكن التشريع من منعها لا أن يقف المجتمع عاجزاً ومتقاعساً عن مهامه.
وأخيراً وليس آخراً.. هذا القانون يحتاج إلى حملة علاقات عامة وحملة إعلامية داخل وخارج البحرين، داخل البحرين لإقناع المعترضين وخارج البحرين كيف كي يعرف العالم أن مملكة البحرين من أوائل الدول التي تتصدى لاستغلال الدين وتتصدى للتطرف.