الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أعزائي القراء، بعد أن تناولنا وإياكم في العمودين السابقين أبرز الآيات القرآنية التي تتعلق بتقرير مبدأ «حب الأوطان من مقاصد الإسلام»، نشرع اليوم بعون الله، بذكر شيء من الأحاديث النبوية التي تعنى بإبراز هذا المبدأ.
* أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله «ص» كان إذا أراد رقية أحد جعل في إصبعه الشريفة شيئاً من ريقه، ثم يغمس إصبعه «ص» في تربة بلده، فيعلق به من التراب شيء، ثم يضعه على موضع الألم من المريض فيقول بأبي هو وأمي: «باسم الله، تربت أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا». وقد تكلم بعض العلماء - كابن القيم في زاد المعاد - عند ذكرهم هذا الحديث أن تربة الوطن الذي يعيش فيه الإنسان لها تأثير عليه.
وكذلك نقل الحافظ ابن حجر في الفتح «10/208» عن البيضاوي قوله على هذا الحديث: «قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلاً في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر». من هذا المنطلق، ومن هذا المجال وهو المجال الطبي، الذي أقره الشرع، نعلم مدى قوة الصلة بين الإنسان وبين تراب وطنه.
* أعزائي القراء، ومن الأحاديث النبوية ذات الدلالة أيضاً ما ثبت في البخاري عن أنس بن مالك «رضي الله عنه» قال: «كان رسول الله «ص» إذا قدم من سفر، فأبصر درجات المدينة «أي: أبصر مرتفعات المدينة»، أوضع ناقته «أي أسرع بها»، وإن كانت دابة حركها». وفي رواية: «حركها من حبها».
قال ابن بطال «3/82»: «وتعجيل سيره «ص» إذا نظر إليها، من أجل أن قرب الدار يجدد الشوق للأحبة والأهل، ويؤكد الحنين إلى الوطن، وفى رسول الله «ص» الأسوة الحسنة». وقد كان حبه «ص» للمدينة نتاج دعوات مباركات، أراد بها «ص» أن يكون في مهاجره ما سبق وكان في موطنه، من كون القلوب مفطورة على حب الأرض التي نشأت وترعرعت فيها، ففي الصحيحين من حديث عائشة «رضي الله عنها» وعن أبيها قالت: «قدمنا المدينة وهي وبيئة، فاشتكى أبو بكر، واشتكى بلال، فلما رأى رسول الله «ص» شكوى أصحابه، قال: «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وحول حماها إلى الجحفة».
ومن هنا نعلم أن دعوة نبينا «ص» في أن يحبب إليه بلداً هاجر إليها، نعلم أن هذه المحبة للوطن مقصودة شرعاً، وتترتب علها الآثار الشرعية.
* أعزائي القراء، ومن الأحكام الشرعية الدالة على ما للوطن في النفس من مكانة، إلحاق عقوبة التغريب والإبعاد عن الوطن بالزاني الذي لم يتزوج، كما ثبت في الصحيح: «أنه «ص» أمر فيمن زنى، ولم يحصن بجلد مائة، وتغريب عام»، ولهذا صح أن يقال أن من فقد وطنه فقد أبتلي بأعظم البلاء.
هذا ما تيسر ذكره اليوم، نلتقيكم بإذن الله تعالى في العمود القادم، لنتباحث في موضوع الانتماء للأرض والوطن، وهل في ذلك ما يعارض الانتماء للوطن الأكبر، وطننا الإسلامي والعربي.
* الباحث الشرعي بإدارة الشؤون الدينية
بوزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف