في زمننا الحالي، باتت المعادن الأصيلة عملة نادرة، وأصبحت كلمة «معدنك أصيل» أو «معدنك ذهب» باعتبار أن الذهب معدن لا يبلى ولا يصدأ، أصبحت كلمة تستخدم بندرة، هذا إن أردنا استخدامها كوصف لشخص يستحقها، لا ذكرها لمجرد المجاملة.
المعادن الأصيلة تظهر في المواقف، وهي أصلاً صناعة المواقف حينما تتحرك وفق قناعات وثوابت، وحينما يتحرك الفرد وفق ما يؤمن به وما يعمل به من مكارم الأخلاق ورفيع الصفات.
أصحاب المعادن الأصيلة باتوا نادري الوجود، وأبرز عامل من العوامل التي جعلت كثيرين يتحولون من معدن أصلي إلى نقيضه، هي المصلحة.
مصالح اليوم هي التي «تطلي» المعادن، هي التي تغير ألوانها، بل هي التي تجعل من كان معدنه «ذهباً»، وسمعته بين الناس عالية تسمو مثل النجوم، تجعله يتحول إلى معدن يعلوه الصدأ، وتحوله من ذهب إلى نحاس.
إن أردت تغيير الذهب فعليك أن تصهره، أن تحرقه وفي درجة حرارة لا يتحملها البشر، ومع ذلك يبقى الذهب نقياً خالصاً، يستحيل أن يتحول لنحاس أو لمعدن آخر.
لكن للأسف في زمننا هذا يتحول الذهب إلى نحاس وبدون عمليات صهر، وبدون حرارة عالية، المصلحة تحوله، التفكير في المكسب الشخصي تجعل الشخص يتخلى عن الكثير من مبادئه بل يدوس عليها، ليتحول لمعدن رخيص.
لسنا هنا نقول إن الإنسان عليه ألا يتغير، وألا يواكب المتغيرات حوله، لكن القصد أن الإنسان عليه ألا يتنازل عن ثوابته وقيمه وانتمائه، عليه ألا يرخص بأخلاقه ويبدل الفضائل منها بالمساوئ، ألا يتحول من عادل إلى ظالم، ألا يتحول من نظيف إلى قذر اليدين، والأخطر ألا يتحول من وطني إلى متكسب من وراء الوطن.
في المواقف، بل في الشدائد تعرف معادن الرجال. حينما تعصف الملمات هناك تجد المعادن الأصيلة التي تقف مع الحق ولا تحيد عنه. حينما يهدد الوطن حينها تجد أصحاب المعادن الأصيلة في وطنيتهم في مقدمة الصفوف لا ينتظرون دعوة، ولا يرتقبون مكسباً وغنائم.
لو أردنا ضرب أمثلة في حراكنا المجتمعي، وفي المؤسسات الرسمية، وتشخيص حالات لمسؤولين تبدلت معادنهم، فإن المقام سيطول، والمقال لن ينتهي، لكن أهم ما نقف عنده حينما نتحدث عن «تبدل المعادن» هو الوطن ولا شيء غيره.
أخطر ما يتعرض له الوطن هو «تبدل المعادن» وتناقص أعداد أصحاب المعادن الوطنية الأصيلة التي لا يغيرها شيء، في مقابل تزايد أصحاب المعادن «المتلونة» سهلة الصدأ والكسر.
مرت البحرين بمنعطفات عديدة، مرت بأزمات، وأخطرها تلك التي أثارت قلقاً لدى أهلها، وظن بعضهم أن البلد ضاعت واختطفت، في وقت لم يدر شك لدى أصحاب المعادن الأصيلة بأن البحرين عصية على الكاره والحاقد والطامع.
هنا بانت الرجال، وأفرزت المواقف معادن مازالت في أعين الناس المخلصين تساوي الذهب وأغلى، وكيف لا وهي التي لم ترخص بذرة من تراب البحرين، لم تقبل الانقلاب على رموزها، لم توال غير هذه الأرض وقادتها، ولم يدخل لها الشك من أي مدخل، فلم تهرب وتخرج، ولم تحول مصالحها للخارج، بل ثبتت لأجل البحرين.
حتى بعد مضي المؤامرة، تاهت بعض المعادن، وبعضها ضاع. هناك من وضع مصلحته الشخصية على حساب الوطن، هناك من انقلب، هناك من أصلاً معدنه صدئ مهترئ لانقلابه على الوطن، لكن كان سهلاً عليه أن يعيد تشكيله ليخرج بمعدن «متلون» النفاق عنوانه، واللؤم والادعاء شعاره. وللأسف هناك من رأى أن المعركة انتهت، وأن الوقت أزف ليغير مساره، ليبحث عن مصلحته وإن اضطر لتغيير كلامه أو للي لسانه.
هنا قد يقول قائل: ولماذا تلومهم؟! هناك من يلعبها وكأنه يدخل حرباً، والحرب فيها المناورة والخديعة. وهناك من يلعبها حتى يشق طريقه ويصنع لنفسه مجداً بأسلوب الربح والخسارة. وكل يرى في طرائقه بأنها الأصلح والأنجع والأذكى.
للأسف أقولها بأن هذا القول «نسبياً» يجمع على صحته كثيرون، بعض منهم من «قصر نفسه» عن المضي في الثبات على المبادئ والأخلاقيات، وبعض منهم اقتنع بأنه قدم الكثير وأنه «كاسر للجميل» على الوطن، والآن موعد الحصاد ورد الدين، وبعض منهم رأى بأن التلون واتباع أساليب التكتيك الهادئة أفضل من المواجهة الصريحة والحرب الواضحة، فالمكسب في الحالة الأولى موجود، والخسارة في الحالة الثانية حتمية لا محالة.
لكن، بغض النظر عن هذا كله، ومدى صحته ومدى مغلوطيته، المسألة كلها مرهونة بالشخص، مرتبطة بقناعاته، مبنية على معياره للصواب والخطأ، ملتصقة بوطنيته وكيفية دفاعه عن وطنه وثوابته.
المعادن الأصيلة لا تتلون، لا تتغير، تظل أصيلة وإن غاب عنها التقدير، وإن تغير عليها حتى الأقربون إما بوشاية أو نكاية، المعادن الأصيلة تظل مع الحق، تظل مع البلد، تظل مع رموزه، من الاستحالة أن تتبدل، وإن تكررت المواقف ذاتها فسينكشف الجمع، سيختفي المدعون والمتقلبون والمتلونون، ولن يظل واقفاً إلا أصحاب المعادن الأصيلة، لأنهم كما الذهب، استحالة أن يتحول لنحاس.