لا أحد يشك أبداً في قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على فرض نفوذها عبر كل أنحاء العالم، ولا يستطيع أي مبصرٍ أن ينفي قدرتها في بسط السلام في منطقة الشرق الأوسط، هذه المنطقة التي تعيش على صفيح ساخن بسبب تردي الأوضاع العامة فيها، لكنها فضلت أن تمارس سياستها بعيداً عن هذا الجو، أو كما يشير بعضهم أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تمارس صلاحياتها وقيمها في فرض الأمن والأمان في منطقتنا، بل فعلت العكس من ذلك لأسباب براغماتية ونفعية.
نحن نصر كل الإصرار على أن قناعة الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون بعيدة عن ساحة الصراع في الشرق الأوسط، ربما كبدها الكثير من الخسائر، حيث كلنا يعلم حجم المساحة التي تشغلها واشنطن في العالم، وحين ضعف غيابها، استطاعت روسيا أن «تأكل الجو» في المنطقة، حتى توارى النجم الأمريكي بكل وضوح، بل استطاع فصيل إرهابي كتنظيم الدولة «داعش» وغيره من الفصائل الإرهابية المسلحة من فرض وجودهم كقوة حقيقية أكثر من واشنطن.
الغباء الأمريكي كلف الأمريكيين خسائر في الوجود والبقاء في منطقة الأوسط، فروسيا اليوم هي من يتحكم في الجو والبحر، كما إن «داعش» أكثر حضوراً من القوات الأمريكية على الأرض، والسبب في ذلك يعود لعدم رغبة واشنطن بالمواجهة المباشرة أو الدخول بشكل صريح في فرض هيمنتها وقوتها على الأرض التي تنشب فيها كافة أشكال الصراعات، فكانت روسيا هي القوة الحقيقية في كل الأرجاء، أما هي فاستخدمت وكلاءها في هذه المهمة لكن على استحياء.
كلامنا هذا ليس مجرد تمنيات بأن تعود أمريكا للمنطقة، ولا أن تظل روسيا أيضاً، بل هذا هو الواقع كما نراه، فالفراغ السياسي والعسكري الذي خلفته أمريكا لن تستطيع أي قوة في العالم أن تملأه إلا روسيا كثاني قوة بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما يحدث اليوم، ولهذا بدأت المنطقة تتشكل بعيداً عن رغبات واشنطن وحلفائها، مما سيكون الوضع الإقليمي مختلفاً عما كان عليه قبل الانسحاب الأمريكي غير المعلن من الإقليم.
في ظل هذه الإرهاصات الدولية، وفي ظل انحسار النجم الأمريكي، وتحت ظل متغيرات إقليمية جبارة، يكون لزاماً على دول الخليج العربي إن أرادت أن يكون لها حضور في رسم سياساتها الحاسمة من أن تعيد ترتيب أوراقها الدولية لتستطيع تحديد مواقفها السياسية لمعرفة من الذي يمكن أن تقف معه في هذا الصراع، ففي السياسة لا يوجد أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون أيضاً، بل هناك مصالح دائمة وأحياناً مشتركة، وهذا ما لا تحب دولنا أن تقوم بالالتزام به في تغيير نمط سياساتها المشتركة مع حلفائها القدامى.
نتمنى في العام الجديد أن تنتهج دولنا أساليب سياسية براغماتية ولو لمرة واحدة في حياتها، كما تفعل أمريكا وروسيا والصين وتركيا وبقية الدول التي يهمها حفظ مصالحها ووجودها. نحن نطالب بذلك كي نتحرر من هيمنة الآخر ومن سطوته، فلا شيء ثابت في عالم السياسة، سوى أن تظل الأوطان محفوظة بفعل قدرتنا على التحكم بوجودنا أكثر مما يتحكم في مستقبلنا «الأصدقاء الأعداء».