لاشك أن استمرار انخفاض أسعار البترول إلى المستوى الذي وصلت إليه يمثل تحديات هامة لصناعة النفط بشكل خاص وللدول المنتجة والمصدرة بشكل عام.
ويرجع التدهور الكبير والسريع في أسعار النفط إلى مجموعة من العوامل التي تزامنت في وقت واحد على جعل أسواق النفط تشهد مثل هذا التراجع غير المتوقع، فمن ناحية نجد أن تكنولوجيا النفط الصخري أدت إلى زيادة كبيرة في المعروض من النفط الخام على إثر تطور التكنولوجيا في هذا المجال ولكن أيضاً على إثر ارتفاع أسعار البترول إلى مستويات عالية تجاوزت المائة دولار للبرميل خلال السنوات الأخيرة الأمر الذي جعل تكنولوجيا النفط الصخري تصبح مجدية وإن كانت تكاليفها عالية نسبياً.
إن تطور إنتاج النفط الصخري وفقاً لذلك قد أضاف كميات كبيرة إلى أسواق النفط أدى إلى زيادة هامة في المعروض من البترول خاصة في أمريكا مما قلص كثيراً في وارداتها النفطية بل جعل أمريكا تصبح من أكبر الدول المنتجة للنفط على قدم المساواة تقريباً مع المملكة العربية السعودية بمستويات إنتاج تقارب 10 ملايين برميل يومياً.
وقد سعت شركات النفط الأمريكية وفقاً لذلك إلى الضغط على الحكومة الأمريكية لرفع الحظر عن صادرات النفط حتى تحقق لها ذلك مؤخراً بعد حظر استمر لأكثر من أربعين عاماً.
من ناحية أخرى هناك أيضاً تخوف من أن انتهاء العقوبات على إيران وفقاً للاتفاق حول ملفها النووي من شأنه أن يضيف كميات جديدة أخرى إلى الفائض الموجود أصلاً في سوق النفط. لكن المشكلة لا تتمثل فقط في فائض المعروض من النفط والذي يقدر بين 500 ألف إلى مليوني برميل يومياً حيث يتزامن وجود هذا الفائض مع ضعف الطلب على النفط.
إن معدلات نمو الاقتصاد العالمي مازالت ضعيفة إن لم تكن في تراجع. كذلك فإن الاقتصاديات الناشئة لم تعد تمثل الزخم الذي عهدناه خلال السنوات الماضية في تحريك عجلة الاقتصاد العالمي. فكثير من هذه الدول مثل البرازيل وإندونيسيا وروسيا وجنوب أفريقيا تراجعت اقتصادياتها بشكل كبير نتيجة لتراجع أسعار المواد الخام والمواد الأولية التي تنتجها هذه الدول.
كذلك وعلى صعيد آخر نجد أن الصين والتي تعتبر من أكبر اقتصاديات العالم تشهد تراجعاً حاداً في معدلات نمو اقتصادها الأمر الذي أثر بشكل ملحوظ على طلبها المعتاد سواء على النفط أو على غيرها من المواد الخام والمواد الأولية.
على الجانب الآخر فإن اقتصاد المجموعة الأوروبية لم يتعاف بعد كما إن الاقتصاد الأمريكي وإن كان يمثل معدلات نمو أفضل نسبياً إلا أن هذا النمو مازال هشاً هذا إذا لم يتعرض لانتكاسة غير متوقعة.
كل هذه العوامل جاءت في الواقع مجتمعة سواء على صعيد الفائض في المعروض من النفط أو على صعيد ضعف الطلب العالمي على البترول فقد كانت المحصلة تراجعاً كبيراً في أسعار النفط وصلت مؤخراً إلى ما دون 30 دولاراً للبرميل. ويتوقع بعض المتخصصين أن تصل إلى حدود 20 دولاراً. طبعاً هذه المستويات من الأسعار تعرض كل من صناعة النفط وكذلك الدول المصدرة إلى تحديات كبيرة في محاولة التأقلم مع مثل هذه الأوضاع الصعبة.
على صعيد صناعة النفط فبلا شك أن كثيراً من الشركات خاصة العاملة في قطاع النفط الصخري والتي اقتصاديات أغلبها قائمة على سعر برميل النفط لا يقل عن 60 دولاراً، ستواجه صعوبات كبيرة في الاستمرار بالعمل وبالذات تلك الشركات التي اعتمدت على الاقتراض لتمويل عملياتها الأمر الذي سيترتب عليه كما علمنا مؤخراً خروج بعضاً من هذه الشركات أو على الأقل تقليص عملياتها هذا إذا لم تلجأ إلى إشهار إفلاسها.
مع ذلك لا ينبغي الاعتقاد بأن ذلك من شأنه التخلص من الفائض في المعروض من النفط كلية وبشكل سريع حيث إن تأثير ذلك سيأخذ بعض الوقت ربما عام أو عامين علماً بأن التخلص من نصف مليون برميل قد يأخذ سنة كاملة هذا في الوقت الذي يقدر فيه الفائض حالياً في حدود نصف مليون إلى مليوني برميل يومياً.
على صعيد الدول المصدرة للبترول فإن الأمر يبدو أصعب من ذلك بكثير فعلى الرغم من أن تقلبات أسواق النفط معروفة وسبق لهذه الدول وأن عايشتها، إلا أن الوضع هذه المرة مختلف حسبما يبدو عما عرفناه في السابق حيث إنه في السنوات السابقة وبسبب تواضع حجم الإنفاق في هذه الدول فإن انخفاض أسعار البترول لم يكن يشكل عقبة كبيرة في معالجة الاختلالات المالية التي نتجت عن تلك الأوضاع.
أما الآن ونظراً للتوسع الذي تم في الإنفاق خلال السنوات القليلة الماضية فإن تراجع أسعار النفط هذه المرة وبهذا الشكل الكبير يمثل إشكالية كبيرة في مدى إمكانية تحقيق التوازنات المالية المطلوبة.
إن الحلول والخيارات في مواجهة هذه الإشكالية لا تبدو ولن تكون سهلة. لقد اتخذت بعض الدول المعنية بعض الإجراءات أهمها ترشيد الإنفاق وتقنين الدعم. ونظراً لأهمية مثل هذه الإجراءات فلا بد من أن تحظى بالعناية والاهتمام اللازم.
فيما يتعلق بترشيد الإنفاق فهو يتضمن بشكل أو بآخر تخفيض مستوى الإنفاق والإشكالية في مثل هذا الإجراء أنه ينصب في الغالب على الإنفاق الاستثماري نظراً لحساسية المساس بالإنفاق الجاري الذي يعتبر من المكتسبات التي يصعب التراجع عنها.
المشكلة تتمثل في كون الإنفاق الاستثماري وليس الإنفاق الجاري هو الذي يعول عليه في تحقيق النمو الاقتصادي المطلوب. لذلك فإن ترشيد الإنفاق وإن كان يمثل إجراء لا مفر منه في مثل هذه الظروف إلا أنه من الضروري كذلك أن لا يؤثر على قدرة الاقتصاد على الاستمرار في تحقيق مستوى من النمو المرغوب. الأمر ينطبق كذلك على الإجراء الخاص بتقنين الدعم، فعلى الرغم من أن مثل هذا الإجراء مطلوب إلا أن المحك في هذا الشأن هو في كيفية تطبيق وإدارة هذا الإجراء.
من ناحية لاشك بأن هناك هدراً في هذا المجال لابد من معالجته لكنه في نفس الوقت هناك أيضاً فئات اجتماعية تحتاج وتستحق هذا الدعم. لذلك فإن اتباع سياسة جديدة في مجال الدعم لا يعني بالضرورة وقف الدعم كلية بل هو بالأحرى اقتصار الدعم على مستحقيه.
وهنا تكمن الإشكالية في القدرة على إدارة السياسة الجديدة في مجال الدعم بالكفاءة التي تحقق هدف تجنب الهدر من ناحية واستمرار مساعدة الفئات الاجتماعية المستحقة من ناحية أخرى.
إن التطورات الحالية في أسواق النفط قد تكون فرصة لشركات البترول وللدول المنتجة والمصدرة على حد سواء لانتهاج سياسات جديدة متطورة من شأنها ليس فقط تسهيل مرحلة التأقلم مع الظروف المستجدة بل كذلك التأسيس لممارسات مطلوبة للتعامل مع تحديات المستقبل.
*الرئيس السابق لصندوق النقد العربي