* قصة قاتل
خرج القاتل من سجنه مرفوع الرأس. لم يكن سجين تهمة إرهابية أو إجرامية بل سياسية. وبصلافة تامة ابتسم أمام الكاميرات قائلاً: في السجن واصلت مهمتي السياسية وسأواصلها بعد خروجي. كان القاتل حراً في السجن. هكذا هييء إلينا عندما شاهدناه وسمعنا منه ما أدلى به. الابتسامة العريضة لم تفارق شفتيه كما أيام كان وزيراً. خرج منتصراً كعادة المقاومين وأبطال «التصدي والصمود»، الذين لا يهزمهم عدو. سجيناً وطنياً كان، كما لو في سجن إسرائيلي، سجيناً مناضلاً مثل سائر سجناء التاريخ، لكن يديه غير نظيفتين ولو لم تتمكنا من ارتكاب الجرائم التي كان يخطط لها. كان برتبة مستشار رئاسي فقرروا تكريمه ورفع موقعه فجعلوه عميلاً ينقل المتفجرات ويوزعها في سيارته ويرسم خططاً لاغتيالات طائفية ومذهبية ومجازر. وعلى الشاشة الصغيرة بعيد اعتقاله شاهدناه في شريط مصور سراً، يحرك يده ملوحاً وقائلاً: «اقتلوا أيضاً من تصادفون في طريقكم من شيوخ ونواب».
ليت القاتل لم يقع في قبضة الأمن العام اللبناني قبيل وفاء وعده للاستخبارات السورية التي حملته هداياها الى الشعب اللبناني، هذا الشعب الذي لم ترده يوماً واحداً على رغم علله الداخلية ولم تدعه يوماً يتفرد في قراره. وقوع القاتل في قبضة أجهزة الأمن جعله يخون الرسالة والقضية، وهو يأنف الخيانة ويرفضها، لا سيما لحظةَ مواجهة العدو أو «الآخر». كان عليه أن يشرف على تفجير «الهدايا» وفق ما خططوا فتشتعل الفتنة المذهبية وتتسع رقعة الخراب الأهلي اكثر فأكثر. نسي القاتل انه يحمل هوية لبنانية، بل لعله تخلى عنها لمصلحة «الصمود والتصدي»، نسي أيضاً أن لبنان هو بلده، نسي أنه كان يمينياً ومتعصباً لليمين، لكن الحماسة الوطنية ضد إسرائيل وعملائها دفعته إلى الارتماء في أحضان «المقاومة والبعث». وتأكيداً لوطنيته وافق على حمل المتفجرات إلى قلب لبنان، إلى الشمال والمناطق المقصودة. هو ليس طائفياً، هو علماني والدليل اسمه، علماني مثله مثل رجال «البعث والمقاومة». ولكن لا يضيره أن يتورط في إحداث الفتنة الأهلية ما دامت ترسخ بطولة «المقاومة» ضد إسرائيل والأعداء.
كان خروج القاتل والإرهابي والظلامي «المتنور» بعثياً أشبه بمشهد سينمائي. لم نصدق ما نشاهد. كان ينقصه أن يرفع علامة النصر شاهراً إصبعيه، نكاية بالعدو: شاهدوا وصدقوا، أنني خارج السجن السياسي. هذا فعلاً مشهد سينمائي مصور في جمهورية العسكر، في دولة تؤكد يوماً تلو يوم انتماءها إلى العالم الثالث بل الرابع.
* قصة قتيل
قتلت مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية الطفل إيلان مرة ثانية وربما ثالثة. إيلان الذي أضحت صورته ممدداً على الشاطئ، إحدى أيقونات العصر، لم ينج من سخرية المجلة الكاريكاتورية التي تعرضت لهجوم إرهابي قبل سنة، وبدت سخريتها منه سافرة وغير إنسانية بل عنصرية. هذا الطفل الذي لفظه البحر وبات بمثابة إدانة قاسية للإجرام والمجرمين على اختلاف نزعاتهم، جعلته المجلة الفرنسية مادة للتهكم والهزء، معتدية على ما يسمى «حرمة» موته وبراءته. حملت الرسمة اللئيمة صورته في الأعلى وتحته جملة أشد لؤماً تقول: «ماذا كان سيحدث لو كبر إيلان الصغير؟»، أما الجواب السليط فهو: «متلمس مؤخرات في ألمانيا». وبين الجملتين رسم رجلان بأنفي خنزير يطاردان امرأتين للتحرش بهما. ترى ما علاقة الطفل إيلان بأفعال التحرش التي ارتكبها أخيراً مهاجرون عرب أو أكراد في مدينة كولونيا الألمانية؟ هل يمكن إسباغ تهمة التحرش على العرب أو الأكراد جميعاً كشعب أو كعرق، إذا ارتكب أشخاص منهم مثل هذه الأفعال الشائنة؟
كانت مجلة «شارلي إيبدو» والصحف الفرنسية أحيت قبل أسبوع الذكرى السنوية الأولى للهجوم الإرهابي والوحشي الذي قام به أصوليون عرب ضد المجلة، وأخذت مقالات عدة على الصحافة العالمية تراجعها عن مهمة مكافحة الإرهاب وعلى الكتاب والرسامين خفوت أصواتهم حيال الرقابة الإعلامية الإرهابية المتزايدة. غدت معركة «شارلي إيبدو» عقب الهجوم الجرامي، معركة كل الصحافيين والرسامين الكاريكاتوريين الأحرار والعادلين في العالم العربي، لكن هذه المجلة التي لا تعرف حدوداً لحريتها الوقحة، الشديدة الوقاحة في أحيان، لم تسع إلى احترام «الآخر» و«الآخرين» في أفكارهم ومعتقداتهم التي تعترف بها أصلاً شرعة حقوق الإنسان. هذه المجلة التي تمارس أفعالها تحت ذريعة الحرية لا تريد للآخرين ان يتمتعوا أيضاً بحريتهم.
ظلمت «شارلي إيبدو» الطفل إيلان كثيراً وبلا رحمة، لكنها لم تتوان أيضاً عن ظلم صحافييها الذين سقطوا تحت رصاص الظلاميين.
* نقلاً عن صحيفة «الحياة» اللندنية