بعد التقارير التي وردت قبل أيام من إيران وتحدثت عن أن شركات الاتصالات الخليوية فيها حذفت نغمة «الموت لأمريكا» من قائمة نغمات الانتظار، وبعد الأخبار المصحوبة بالصور التي انتشرت فور التوصل إلى اتفاق مبدئي بشأن الملف النووي الإيراني قبل عدة أشهر عن رفع العلم الأمريكي في طهران إلى جانب أعلام الدول الأخرى، بعد هذه التقارير والأخبار ورد خبر ملخصه أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف «تملص من مسؤولية طهران عن دعواتها المتكررة لمحو إسرائيل وذلك خلال لقائه بلجنة برلمانية فرنسية حضرها النائب المقرب من بنيامين نتنياهو مائير حبيب». في الخبر أن ظريف قال لمضيفيه بأن «هذه الدعوات أطلقتها جمعيات غير حكومية وغير معروفة للحكومة»!
بالنسبة للكثيرين قد تعتبر هذه الأخبار الآن عادية وربما أقل من عادية، فالزمن تغير وحكومة الملالي صارت معروفة ببراغماتيتها «البراغماتية مذهب فلسفي سياسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة. يستعيض البعض عنها بكلمة ذرائعية أو عملانية»، فهذه الحكومة تبحث عن مصلحتها من دون أي اعتبار للأمور الأخرى، دون أن يعني هذا أن التوجه خاطئ، فمن حق الحكومة الإيرانية كما هو من حق كل حكومة أن تبحث عن مصلحتها، بل إن هذا التوجه من شأنه أن يغير من سلوك إيران ويجعلها تحد من أحلامها التي لا تتحقق. وجه الغرابة يكمن فقط في أن هذه الحكومة رفعت ولاتزال ترفع شعارات ثورية تمنعها من الانفتاح على مصلحتها بشكل علني وظلت طويلاً تسبب لها الحرج.
في كل الأحوال هذه الأخبار والتقارير لا تعني سوى شيء واحد هو أنه «طاح الحطب»، ولم يعد هناك ما يعكر الصفو بين إيران والولايات المتحدة، وبين إيران وإسرائيل، سوى بعض الشعارات التي تعود الإيرانيون على رفعها، والتي ستزول ويزول تأثيرها مع الوقت، وسوى إحساس إيران بأنها لم تتمكن بعد من استمالة الولايات المتحدة إلى الحد الذي كانت تأمله، فإيران تغيظها التصريحات الأمريكية والتي تطمئن بها الولايات المتحدة بين الحين والحين دول مجلس التعاون خصوصاً بعد رفع العقوبات عن حكومة الملالي وملخصها أننا لن نبيعكم مهما قويت علاقتنا بطهران بعد كل هذا التطور في العلاقة معها.
اليوم لم تعد أمريكا في عيون إيران «الشيطان الأكبر» أو «الأوسط» ولا حتى «الأصغر»، أمريكا اليوم هي الصديق والأخ والعضيد وهي الأمل في التمكن من المنطقة وتسيدها، وشعار «الموت لأمريكا» لم يحذف من نغمات الانتظار فقط، ولكن حذف من قلوب المسؤولين الإيرانيين وسيحذف قريباً من قلوب الشعب الإيراني أيضاً، بل قد يحذف من التاريخ كذلك، فينكر المؤرخون الإيرانيون أن إيران رفعت هذا الشعار ذات يوم وقد يدونون في سجلاتهم أن أحداً من الإيرانيين لم يقل «الموت لأمريكا» ولا «الموت لإسرائيل»!
مصلحة إيران اليوم تحتم عليها حذف ذلك الشعار وكل شعار يعيق دخولها الدنيا، ولن يكون مستغرباً أيضاً أن تحذف كل الجماعات التي تبنتها ودعمتها وحرضتها على حكوماتها في بلدانها، بل إن هذا ليس مستبعداً أبداً وينبغي أن يتوقعه ذلك البعض المعني هنا، فعندما يتعارض دعمها لهم مع مصلحتها فإن إيران لن تتردد عن رفع الدعم بكل أشكاله عنهم وحتى طردهم من طهران، ومنعهم من الظهور عبر فضائياتها «السوسة»، وهذا مثال عملي للبراغماتية. بعد قليل ستشعر حكومة الملالي بدفء الأموال وبأن الحياة ليست في تمني الموت لأمريكا أو إسرائيل وإن بإمكانها أن تقدم ما ينفع الناس ليذكروها بخير.
صرخات «الموت لأمريكا» والدعوات «لفناء إسرائيل» أطلقتها «جمعيات غير حكومية وغير معروفة للحكومة» كما قال ظريف، أي أنها لا تعبر أبداً عن حكومة الملالي.. البراغماتية.