لا يوجد في المنطقة برمتها، سواء ما فوق أرضها أو ما تحت سمائها ما يغري الولايات المتحدة الأمريكية للتمسك والبقاء بها أكثر من ذي قبل، فهي إمَّا استنزفت كل ما يمكن استنزافه في هذا الإقليم، أو أنها تيقنت ألا وجود لها بعد اليوم بعد دخول قوى أخرى في الساحة، فقررت الرحيل بكبريائها الذي يليق بكبار الدول، أو أن هنالك أمراً لا يقع بين الاحتمالين، وهو أن أمريكا وجدت ضالتها في مناطق أخرى من العالم، بينما يؤكد بعض المحللين أنها بدأت تعيد أولوياتها من جديد، فارتأت أن الشرق الأوسط ليس من أولوياتها المستقبلية على الإطلاق.
لم تعد أمريكا على الرغم من قوتها الجبارة هي أمريكا التي نعرفها من قبل، فتفاعلها البارد مع أهوال المنطقة يخفي الكثير من أسرارها التي لم تطفح حقيقتها أمام أعين السياسيين والمحللين بعد، وفي كل الأحوال، هنالك أمر واحد يبدو واضحاً في الأفق، وهو أن الولايات المتحدة الأمريكية لم يعد لديها ما تكسبه، وليس لديها ما تخسره لو غادرت المنطقة، فالإقليم اليوم ليس من خياراتها الاستراتيجية القاطعة، ولم يعد فيه ما يغري أكثر للبقاء فيه مستقبلاً، ولهذا اختارت أمريكا أن يكون وجودها في هذه المنطقة هامشياً، خصوصاً بعد انهيار كل فرص الإصلاح السياسي حيال القضايا الإقليمية، وبُعيد ما يسمى بـ «الربيع العربي». ربما تبحث أمريكا في المرحلة القادمة عن قوة إقليمية أو حليف يمسك بأمن الإقليم، لكنها لا تريد البقاء معنا لفترات أطول.
في ظل هذه المعطيات الخطيرة ومدى ارتباط دولنا بالمارد الأمريكي، يكون من المهم على الدول الخليجية إن أرادت الاستقرار بشكل يضمن أمنها ومستقبلها هو البحث عن أصدقاء جدد، وأن تتجه صوب الدول التي من خلالها تستطيع أن تسد الفراغ الذي قد تتركه واشنطن جراء رحيلها التدريجي من المنطقة. على الخليجيين أن يبحثوا عن شركاء كبار، يشاركونهم كافة أشكال التعاون السياسي والاقتصادي والثقافي وغيره، وأن يتطلعوا مع الدول الأخرى لبناء جسور قوية وصلبة من أجل تشييد نهضة عمرانية ومدنية تعود بالنفع على شعوب المنطقة.
من المؤكد أن هنالك خيارات مطروحة كبدائل للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، كالهند والصين وجمهوريات آسيا الوسط وكذلك دول شرق أسيا وبعض دول أمريكا الجنوبية، وأن يكون ذلك خياراً استراتيجياً واضحاً على المدى البعيد، حتى يكون تنوع العلاقات الخليجية الدولية يسير في الاتجاه الصحيح، وحتى تنتهي الأفكار الشمولية والأحادية من جهة دولنا فيما يخص العلاقات «الخالدة» مع دول ربما ترحل مع جفاف آخر قطرة نفط في آبارنا أو مع أي تعارض مصالحها مع مصالحنا، ومن هنا يجب أن نؤمِّن كل خياراتنا المتعددة وفق السياسة البرغماتية العالمية، ولا شيء سوى ذلك يدوم في عالم تتزاحم فيه المصالح والمنافع قبل الصداقات التي قد تنقطع بانقطاع أسبابها.