لمعرفة أسباب غياب المشروع الوطني لإدارة العملية السياسية في العراق بعد الاحتلال الأمريكي، وأقصد المكون السني حصراً، فلنعد بالذاكرة قليلاً إلى الوراء، فكما هو معلوم أن دفة الحكم في العراق كانت تدار من قبل «حزب البعث» العلماني، ولم يكن ليفسح المجال لأي معارضة، وأي حراك سياسي خارج منظومته، حيث كان يعتبر ذلك بمثابة تآمر، وربما الوضع الإقليمي والتحديات التي كانت محيطة بالعراق وهاجس ضياع السلطة دفع ذلك النظام إلى تجريم العمل السياسي.والجهة الوحيدة التي لها تنظيم داخلي لكنه مجمد وتحت المراقبة المشددة كانا «الحزب الإسلامي» و«الحزب الشيوعي»، وكانا يمثلان اسماً أكثر منهما فعلاً، في حين أن أغلب أحزاب وشخوص المعارضة تشكلت وترعرعت في إيران، واتخذت من لبنان وسوريا مهداً لها، وأغلب أعضائها من «حزب الدعوة»، والقيادات الشيعية المرتبطة بـ «الولي الفقيه»، كذلك قادة الأحزاب الكردية والتي كان شرطها الوحيد في الانضمام لها وفتح أبواب كردستان لتكون محط انطلاقها هو إقرار الجميع بالحصول على نصيبها الكامل من خيرات العراق، وفي نفس الوقت الاحتفاظ بحكومة مستقلة والمشاركة بالحكومة المركزية دون خسائر، ودون المساس بهيكلية الحكم، الذي هو أقرب للعشائري والوراثي منه للمدني.وأقنعت أمريكا الأطراف الشيعية والكردية كشرط للاعتراف بهما كمعارضة ودعمهما بإدخال ممثلين عن «الحزب الإسلامي» وبعض الشخصيات السنية المطرودة من الجيش العراقي السابق ممن لديهم سوابق جنائية واختلاسات أو المنشقين عن تنظيمات «حزب البعث» وبعض العلمانيين. وهذا لا يعني أن المكون السني كان خالياً من المعارضين الوطنيين الذين لديهم مشروع متكامل لإدارة الأزمة عند حدوث أي تغيير في المعادلة العراقية، خصوصاً أن الجميع كان يحبس أنفاسه ويعلم أن العراق مقبل على تغيير جذري، رسمت ملامحه بعد غزو الكويت وخروج العراق منها، محطماً اقتصادياً وعسكرياً ونفسياً، لكن يبدو أن الجانب الأمريكي أشاح بوجهه عنهم وأراد تقريب الأحزاب الدينية لينفذ على أيديهم مشروعه التدميري في العراق ثم يرمي بهم بعد ذلك في مزبلة التاريخ.وبعد معركة غير متكافئة وغير شرعية، أنهت أمريكا وحلفاؤها فصلاً طويلاً من تاريخ العراق الحديث، وبدأت فصلاً جديداً مظلماً فور احتلالها له، فأعطت الشرعية المنقوصة لمعارضة مهلهلة لتسند إليهم حكم العراق تحت إشراف الحاكم المدني بول بريمر، وأصرت على أن يكون حصة الأسد فيها للمكون الشيعي، ليس لأنهم الأغلبية، فلا إحصاء دقيق متوفر حتى الساعة يثبت ذلك، بل عرفاناً منها لموقف مرجعياتهم المؤيدة لغزوهم والمحرم لمقاومتهم باعتبارهم فاتحين محررين! فتهافتت على كرسي الحكم والتزلف لأمريكا جميع الأحزاب والتنظيمات الدينية الشيعية مدعومة بفتاوى المرجعية، وكانت هي الخطوة الأولى لدق الإسفين الإيراني في عاصمة الرشيد.وخلت الساحة السنية تماماً بمن يمثلهم خصوصاً أنهم في نظر أمريكا حاضنة لـ «حزب البعث»، وصلب الجيش العراقي السابق، الذي كان يمثل عقدة مستعصية للكيان الصهيوني وطهران معاً، حيث اعتبر أن النظام السابق وجيشه وحزبه وطاقم حكمه يمثل السنة، في حين أن الجميع يعلم أنه حزب علماني، وكثيراً من قياداته والمقربين للراحل صدام حسين هم من الطائفة الشيعية! فتلك فرية لا تنطلي على أحد وأن الطائفية لم يكن لها وجود في العراق إلا بعد الإطاحة بهم وقدوم أمريكا وأذنابها.من هنا بدأ التصدع في الشارع السني، حيث انبرى للعمل السياسي في هذه المرحلة العصيبة والدقيقة جناحان وهما على طرفي نقيض، وكلاهما أضر بمصالح السنة بل دفعا بها إلى الهاوية، فالجناح الأول وهم خليط ممن ارتضى لنفسه أن يكون تحت وصاية «الولي الفقيه»، والأحزاب الشيعية، ومتملقاً لقادة الكرد، ومتماشياً مع المشروع الأمريكي الإيراني يتقدمهم «الحزب الإسلامي»، والمتضررون من الحكم السابق هدفهم الأول هو الحصول على نصيبهم من الكعكة وشهدوا زوراً بأن المكون السني في العراق هو أقلية لا يتجاوزون الـ12%.أما الجناح الثاني وكان يترأسه الشيخ الدكتور حارث الضاري رحمه الله وهو أكاديمي وخطيب منبر، ولم يعرف عنه أنه عمل بالسياسة مطلقاً فقد أفتى بحرمة العمل مع المحتل، والدخول في العملية السياسية، وللحديث بقية.