لقد تعاملت مع أستاذي الدكتور بطرس بطرس غالي منذ عام 1961، عندما التحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة وتعلمت منه الكثير، وأشير فقط لبعض محطات كنت وثيق الصلة به فيها.
المحطة الأولي، عندما درست العديد من كتبه ومؤلفاته في الكلية، ولعل أهمها كتابه في التنظيم الدولي وكتبه عن التخصص الدبلوماسي وغيرها. المحطة الثانية، عندما كنت سكرتير أول بالسفارة المصرية في النرويج، وجاء للمشاركة في مؤتمر عن القانون الدولي ورافقته طوال فترة إقامته، وأقمت له حفلاً بمنزلي ضم نخبة من الدبلوماسيين من وزارة الخارجية وأساتذة العلوم السياسية والقانون الدولي، وتنبأت زوجة أحد السفراء النرويجيين له بأنه سيصبح وزيراً وبالفعل في عودته للقاهرة فوجئ ببروتوكول مجلس الوزراء ينتظرونه في المطار لاصطحابه لأداء القسم كوزير دولة للعلاقات مع الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية التي كانت موضع اهتمام في أوروبا آنذاك، ومنها انتقل وزير دولة للشؤون الخارجية ورافق الرئيس الأسبق أنور السادات في الذهاب للقدس في مبادرة السلام. المحطة الثالثة، عندما كنت أعمل بمكتبه وحان موعد نقلي لسفارة في الخارج، فأرسلني للهند ولم أكن متحمساً لذلك، ولكنه شرح لي أهميتها وتاريخها وحضارتها ودورها في عدم الانحياز، وكان صادقاً في كل ما قاله، ولمسته في فترة عملي مستشاراً بسفارة مصر في الهند. المحطة الرابعة، عندما كنت مندوباً مناوباً لوفد مصر في الأمم المتحدة بنيويورك، وكان الدكتور نبيل العربي مندوباً دائماً، وتعاونت معه في اللوبي من أجل حصول غالي على منصب أمين عام للأمم المتحدة، ووفقنا الله فأصبح أول أمين عام مصري وأفريقي وعربي يتولى هذا المنصب.
المحطة الخامسة، ترتبط بتمسكه بمبادئه بإصراره على نشر تقرير الأمم المتحدة عن مذبحة قانا في لبنان عام 1996، رغم اعتراض الولايات المتحدة القوة العظمى، واعتراض إسرائيل وضغوط اللوبي اليهودي بشدة، ولكنه كصاحب مبدأ أصر على نشر التقرير وعوقب بالحرمان من التجديد لفترة ثانية بخلاف ما حدث مع جميع الأمناء العامين للمنظمة الدولية.
المحطة السادسة، عندما زار الصين وكنت سفيراً لمصر في الصين، ورافقته طوال فترة الزيارة وتابعت نشر كتابين من كتبه باللغة الصينية، وقدم للكتاب الأول عن رحلة القدس، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الصيني آنذاك، والكتاب الثاني عن الأمم المتحدة، وأسند لي مهمة كتابة مقدمة الطبعة الصينية، وكان ذلك ثقة منه في تلميذه.
المحطة السابعة، عندما تم اختياري عضواً في المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، وتم اختياره رئيساً للمجلس واستمرت عضويتي في المجلس 6 سنوات، وظل هو رئيساً ثم رئيساً شرفياً حتى توفاه الله. وكان مدافعاً قوياً عن قضايا حقوق الإنسان وبعقلانية مدركاً الارتباط بين حماية حقوق الإنسان وحماية مؤسسات الدولة في الأمن والدفاع بصفته ابن البيروقراطية المصرية، وابن سلالة طيبة هي أقباط مصر، الحضارة والعروبة، ومدافعاً عن سياستها ومواقفها، وهو أفريقي حتى النخاع، فقد تخصص في الاهتمام بأفريقيا طوال فترته الأكاديمية، وتعرف على جميع قادتها وساهم في الإفراج عن الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا، ولذا ساندته أفريقيا ليصبح أول أمين عام للأمم المتحدة كمصري أفريقي. وكانت لبطرس غالي بصمات في المجلات العلمية حيث بادر بإنشاء مجلة «السياسة الدولية» ومجلة «الأهرام الاقتصادي»، وتولى رئاستهما وفتح لي ولكثيرين الباب للكتابة فيهما، وشجعني على ذلك كما ساعدني في نشر أوائل كتبي عن الاشتراكية الديموقراطية في النرويج ضمن مجموعة إصدارات عن الاشتراكية الديمقراطية.
تلك بعض لمحات عن علاقتي بأستاذ وقامة فكرية ودبلوماسية وسياسية مصرية، رحل عن عالمنا إلى رحاب الله مع القديسين بعد عمر حافل بالعطاء. قدس الله روحه فلم يكن يعرف التفرقة بين أصحاب العقائد والأديان، وهكذا كان بطرس غالي الإنسان.