أذكر أنني قابلت أمريكياً كبيراً في السن عندما كنت في ألمانيا، وتجاذبنا أطراف الحديث، فسألني السؤال المعتاد: من أين أنتِ؟ فأجبته من مملكة البحرين، فسألني مرة أخرى، أين هي البحرين؟ فأجبته: بجانب السعودية ودبي، قال لي: أنا لا أعرف السعودية أو دبي!! فقلت له: كيف لا تعرف السعودية ودبي؟! فأجابني باندهاش: أمطلوب مني أن أعرف كل دول العالم، أخبرته بأنني أعرف الكثير عن جغرافيا أمريكا وعن رئيسها وعن انتخاباتها وأحزابها وما إلى ذلك، فقال لي: ولماذا ترهقين نفسك بكل هذه المعلومات؟ وأكمل: تصدر المنطقة التي أعيش فيها صحيفة أسبوعية هي الوحيدة التي أقرأها لكي أعرف أخبار المنطقة التي أسكن بها، ولا أكترث مطلقاً بمعرفة معلومات إضافية حول باقي مناطق أمريكا أو باقي الدول، وواصل قائلاً: أؤمن بأن عقل الإنسان له سعة وحجم مثله مثل «الفلاش ميموري»، وأنا لدي العديد من الأمور التي أعتقد أنها أهم لكي أملأ بها مساحات عقلي.
تذكرت كلام هذا الرجل الأمريكي الذي كان يروي لي وجهة نظره، وأنا أعيش في عالم مزدحم بالأخبار، عالم الكل فيه يعتبر نفسه رئيس تحرير، والكل فيه يعتبر نفسه وكالة أنباء، حتى كاد الخبر الواحد يصلني من أكثر من 20 مصدراً مختلفاً أو بمعنى أصح من 20 شخصاً مختلفاً، جميعهم عنونوا رسائلهم بخبر «مهم»، «خبر حصري»، والأغرب من هذا انتشار نوع جديد «من فقاعات قادة الرأي»، وهم الذين يتحدثون في فيديو مصور عن وضع أو خبر معين!! سواء باستخدام برامج «السناب شات» أو باقي مواقع التواصل الاجتماعي، ظاهرة غريبة وعجيبة، ولا أستطيع أن أصف كلامهم إلا «باللغط»، حيث إن كلامهم مجرد «تحلطم» و»تحندى»، على الفاضي دون إعطاء حلول أو مقارنات أو أرقام، هم يتحدثون من أجل لا شيء، سوى شحن الرأي العام والغريب في الموضوع أن الرأي العام يتناقل رسائله، ولو سألت أحداً منهم عن فائدة ما قاله هذا الشخص سيقول إنه «قال ما لم يستطع غيره أن يقوله»، خف علينا يا بطل!! ويصدق هذا الشخص نفسه، ويبدأ في ترديد إصدارات جديدة، ويرفع فيها مستوى «السخط»، ويتبعه نفر قليل مؤيدين له مصفقين له.
أنا ضد سياسة تكميم الأفواه، ومع رفع سقف الحرية، أنا ضد الأيام التي كنت أجبر فيها على خفض صوتي، ومع السقف العالي والمرتفع للحرية، ولكن وجود سقف يعني وجود ضوابط تنظم العملية، أنا مع أن يكون لكل مواطن وفرد في البحرين وفي العالم قناته الخاصة، يبث منها ما يشاء، ولكني ضد التحشيد والتضليل، ضد نشر الإحباط ونشر السخط، أنا ضد سياسية التفرقة وشق الصفوف، أنا ضد تبني أفكار تؤدي إلى هدم الأوطان.
أنا مع الاستخدام الأمثل لوسائل التواصل الاجتماعي، لا أعني من كلامي أن نسكت عن الحق، لكني أعني أن نضع لأنفسنا مبادئ ونضع دائماً الوطن أمام أعيننا، ونفكر في هذا السؤال «هل ما أقوله سيؤثر بالإيجاب أم السلب على وطني؟!».
لن أذهب بعيداً وسأستشهد بدولة الكويت الشقيقة، فعندها سقف الحرية مرتفع جداً، ولكنهم مهما بلغ منهم الانتقاد ضد أي وضع أو أي شخص فحب الوطن ومصلحته يضعونها أمام أعينهم دائماً. وفي زيارتي الأخيرة للكويت تعرفت على الإعلامي النشيط داهم القحطاني، وما أدراكم من هو داهم؟! شخص متمرد، ثائر، ناقد، ويقال عنه إنه «معارض»، ولكنه وطني بامتياز، ينتقد ويعارض من أجل مصلحة الوطن، ويضع دائماً الحلول قبل الانتقاد، لا يهمه شيئاً سوى رفعة وطنه، ولهذا مهما بالغ في النقد يكون كلامه مستساغ رغم لذاعته!!
كم آمل في أن نستغل وسائل الإعلام لتكون في صالح تطور أوطاننا وليس هدمها، كم أتمنى أن أرى أشخاصاً يسخرون حساباتهم من أجل مقترحات تزيد الدخل القومي، أو مقترحات تقدم للدولة لتطور من أدائها، قد يقول لي أحدهم بأن الدولة لا تسمع، وأنا أقول، قد يلتقط أي شخص مقترحاتكم ويحولها إلى واقع فننتفع جميعاً، فلنحاول..
فلنرفع أصواتنا، ولنستثمر مناخ الانفتاح الذي نعيشه لصالحنا، ولصالح تقدم وازدهار أوطاننا.