من الضروري التأكيد في كل مرة يكون فيها الحديث عن التقشف بسبب الأزمات المالية العصيبة التي تمر بها غالبية دول العالم، أن لا يكون موضوع «شد الحزام» ساري المفعول على كل القطاعات عبر مسطرة واحدة. فالقطاعات الخدمية الحيوية والحساسة لا يمكن أن ينالها التقشف، سواء تلك التي تتعلق بأمن الوطن، أو تلك التي تتعلق بأعمدة التطور والنهضة الحقيقية والاستثمار في الإنسان كالتعليم والصحة.
لا يمكن أن تتراخى الدولة أو تنساق لمفاهيم التقشف في هذا المثلث بالغ الأهمية، فلا توجد تنمية حقيقية أو استثمار في الإنسان، إلا عبر تعليم قوي، يعبر عن اهتمام الدولة بالحاضر والمستقبل، وعبر حزمة من الخدمات الجيدة المتعلقة بصحة الفرد والمجتمع، أمَّا التقشف في الأمن فيعني ضعف السياج الذي يحمي الوطن من كل الهجمات التي قد يتعرض لها.
حين تتقشف الدولة في الصحة، عبر تقليص نفقات العلاج وخلو صيدليات المشافي من الأدوية، وكذلك أيضاً عدم إعطاء الأطباء كامل حقوقهم المادية أو تقليص مدد عملهم في المستشفيات الحكومية من خلال تقليص فترات النوبات الخاصة بهم، فهذا يعني أن الصحة المتعلقة بسلامة الناس وبنوعية وطبيعة الخدمات الصحية المخصصة لهم قد أضحت ضعيفة، مما يساهم هذا التقشف غير المدروس في أن تكون كل الخدمات المُقَدَّمة في هذا القطاع معرضة للخطر، وبالتالي يكون الإنسان عرضة للأمراض، ناهيك عن أن يكون العامل في الحقل الطبي لا يعمل بشكل كافٍ وجيد بسبب سحب الكثير من الامتيازات والحقوق التي يجب أن يتمتع بها الطبيب حتى في أوقات الحروب وليس فقط في أوقات التقشف.
وحين تتقشف الدولة في قطاع التعليم، فإنها بذلك تتقشف في الإنسان والمستقبل، إذ لا يمكن لنا أن نتصور وجود دولة قوية من دون وجود تعليم متطور ومواكب للعصر، وهذا لا يكون إلا من خلال أن تضخ الدولة المزيد من الموازنات القوية في هذا المجال، وأن تكون رواتب العاملين في قطاع التعليم جيدة، حتى يكون التعليم أكثر من جيد، لا أن تقوم الدولة بسحب أبسط الحقوق المادية من بين أيديهم.
أما الأمن، فإنه أساس الاستقرار، وعليه لا يمكن أيضاً أن ينال هذا القطاع نصيبه من التقشف أو الإهمال، ولهذا فإن الدول القوية وفي ظل الأزمات الاقتصادية التي تواجهها لا يمكن لها أن تقوم بتخفيض ميزانية الأمن فيها، خصوصاً في ظل الأوضاع القلقة التي تمر بها تلكم الدول. البحرين، ليست استثناء من هذه القواعد التي تخص هذا المثلث الاستراتيجي للدولة في زمن الأزمات الاقتصادية والظروف المالية الصعبة. فالصحة والتعليم والأمن، لا يجوز أن يمسهم التقشف بشكل مؤثر ومباشر، فكيف إذا كانت هذه القطاعات هي القطاعات الأولى التي يمكن أن ينالها التقشف قبل غيرها من القطاعات الأخرى عندنا؟ وهذا يعني أن بعض العقليات ما زالت تفكر خارج العصر، ولم يعد بمقدورها التمييز بين أولويات ما كان يجب أن تتقشف فيه بداية مما لا يجب فيه ذلك، ولهذا سيكون التقشف في الأمن والصحة والتعليم من أكبر المخاطر والمجازفات التي تقوم بها الدولة لو انصاعت لبعض الأفكار التي تذهب إلى المساس بمثلث الحياة الأساسية للدولة والمجتمع، فهلَّا تمت مراجعة برامج التقشف من جديد.. نتمنى ذلك في القريب العاجل.