الشعوب الخليجية تمر بمرحلة مخاض لولادة جديدة وظروف ولادتها استثنائية، على غير حالات الولادة السابقة.
فالتحديات التي ستواجه هذا الجنين القادم غير اعتيادية لم تمر به ثلاثة أجيال خليجية ولدت وتربت على هذه الأرض، صحيح أن شعوب الخليج مرت في منعطفات حادة قبل ذلك عندما نضبت تجارة اللؤلؤ، وعندما تصادمت مع قانون الحماية البريطانية، وعندما استقلت وواجهت تحديات الوجود كدول، وعندما احتلت العراق دولة الكويت، إنما فيها كلها لم تضطر الشعوب الخليجية أن تعيش هاجس الحرب وهاجس الأمن الداخلي والهاجس المعيشي الاقتصادي.
الجيل الخليجي الجديد مواليد الألفية الثالثة ولدوا وبلادهم في حالة حرب ومورد دولهم الاقتصادية الرئيسة أصبح لا قيمة له، وسؤالي اليوم هل نحن كأمهات وآباء على استعداد لتربية هذا الجنين ومساعدته على النمو كرجل يعتمد فيه على نفسه، رجل يحترم ذاته وتراثه وكرامته وسيادته وعزته؟ تربية تستقى من الأصول مما سيساعد الأجيال القادمة على الثبات على قيم وقواعد لا تنضب كمعين؟ أم سنستمر فيما ربينا عليه إخوته، جيل يعتمد على غيره في الدفاع عن نفسه وفي تغذية نفسه وفي شتى مجالات حياته يعتمد على غيره؟
هل نحن قادرون على مواجهة هذه التحديات؟ هل نحن قادرون على تغيير نمط تفكيرنا كجيل أول ولد في زمن الرخاء لنعيد تربية أولادنا وأحفادنا على زمن التقشف وزمن الكدح والتعب والاعتماد على الذات؟
نحن مربون لا خبرة لنا كما كانت لآبائنا وأجدادنا، فلأول مرة منذ عقود طويلة لم تشارك جيوشنا في حروب مباشرة كما يحدث الآن وتفقد عدداً من أبنائها شهداء، وتخوض بقواتها المسلحة قتالاً ميدانياً، ظروف حرب تحرير الكويت الذي شاركت فيه قوات درع الجزيرة مغايرة تماماً، من حيث حجم المشاركة والمهام المناطة بالقوات الخليجية، ومغايرة في من كان خصمك وحجم المخاطر والتحديات التي واجهتنا، والأهم لم يكن هناك وسائل للتواصل الاجتماعي ولم يكن هناك إعلام متقدم كأيامنا هذه، يبلبل ويشتت الذهن ويزيد اضطرابك اضطراباً.
المرحلة التي نمر بها الآن والظرف الاستثنائي الذي نمر به هذه الأيام غريب علينا كشعوب خليجية وتجربة جديدة لم نخضها من قبل، فليس لنا خبرة متراكمة ننطلق منها، في تربية عزائم الرجال، وضعنا للمرة الأولى هذا الموضع الجديد.
أكلمكم كامرأة وكأم لم نعتد أن نزور بيوتاً لتقديم واجب العزاء لشهداء، لم نعتد أن نبحث عن كلمات نشد بها أزر أمهات آلاف الجنود والضباط الموجودين على الجبهات، تلك تجربة إنسانية فريدة تحتاج لكم تراكم من الخبرات نخوضها للمرة الأولى.
حتى على مستوى مجالس الرجال وخوضهم في الحديث عن مستجدات المرحلة تجد تشريقاً وتغريباً وشتاتاً في المعلومة وفي الرأي وفي التوجه، قليل منها يعرف كيف يدير الدفة في اتجاه رفع المعنويات والعزيمة، أغلبها يتوجس من كلمة «حرب» وهو الذي طالما لام الأنظمة والحكومات على تقاعسها وعلى خذلانها لأمتها العربية، ولكن حين جد الجد واتخذ القرار وجدته يتلعثم ويتوجس.
الصراحة نرى الفارق كبير جداً في التعاطي مع تحديات هذه المرحلة بين البيوت التي حافظت على شعرة للعروبة وللدين وللقيم والمبادئ الخاصة بالمرجلة وبالشهامة وبعلوم الرجال كما نسميها داخل بيوتها، عن البيوت التي غربت أبناءها وتغربت معها، إنهم أكثر ثباتاً في مرحلة مضطربة كهذه.
الحقيقة أننا أمة تمر بأعراض مخاض لولادة جديدة جنينها كاد أن يموت اختناقاً وهو في رحم أمه، جنين يخرج للحياة متكلاً على نفسه في الدفاع عنها وحمايتها هذه تربية مختلفة وإعداد للتنشئة مغاير تماماً.
وبدلاً من مساعدة الأم على إخراج هذا الجنين سليماً معافى نعيش حالة ارتباك شديدة ونترك الأم لتخوض وحدها مخاضها.
الأمر ينطبق على مرحلتنا الاقتصادية الجديدة. هو أيضاً مخاض لولادة أمة لا تعتمد على مورد طبيعي، بل جنين يعتمد في تنفسه على جهده هو ونشاطه هو وحراكه وإنتاج يديه هو، ذلك أيضاً وضع لم نعتده ولم نراكم خبرات تربوية نستقي منها، فمنذ الثلاثينات ونحن في بيات شتوي إلى الآن منذ اكتشاف النفط ونحن نتراجع في إنتاجنا وحراكنا الاقتصادي حتى بتنا نعتمد اعتماداً كلياً على مورد نستخرجه ونبيعه كما هو دون قيمة مضافة حتى ولو بدولار.
تربينا نحن وربينا أبناءنا، وأبناؤنا بدؤوا يربون أبناءهم على هذا الحال، حتى أفقنا جميعاً صباح ذات يوم لنفاجأ أن هذا المورد لا قيمة له وعلينا أن نتحرك ونتصرف ونفكر ونبحث عن مورد جديد يغطي مصاريفنا!
لم نعتد كأمهات أن نربي أبناءنا على الخروج للسوق والبحث عن الرزق حتى بالمعنى المجازي، أزواجنا لم يعتادوا أن يدفعوا بأبنائهم للسوق للبحث عن تسعة أعشار الرزق، بما فينا العائلات التجارية، التي ربت أبناءها أفضل تربية وأعدتهم أفضل إعداد ثم دفعتهم لتولي مناصب رسمية في القطاع الحكومي!!!
الشعوب الخليجية أمامها فرصة لإعادة تربية نفسها من جديد ولا أجد غير القيم العربية الأصيلة ملاذاً يعيد تأهيل الرجولة والأمومة من جديد ... وسامحونا على التقصير.