شاركت مؤخراً في مؤتمر التنمية الخليجي مع نخبة من الأساتذة والخبراء الخليجيين، ولست بصدد الحديث اليوم عن أعمال المؤتمر، بل سأتحدث عما دار على هامش أعمال هذا المؤتمر المميز في الطرح، حيث احتوى برنامج المؤتمر مساءً على استضافة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار للمشاركين في هذا المؤتمر.
بدأ اللقاء في بيت محمد بن فارس لفن الصوت، ويقع هذا البيت في أزقة «الحالة» بالقرب من سوق الذهب في سوق المحرق، مكان في غاية الروعة والخيال، جلست أتطلع إلى جدرانه وأرضياته التي اختيرت بعناية فائقة لتحول البيت القديم إلى مكان في غاية الروعة والفخامة، زينت جدران البيت بعدد من الصور للفقيد الفنان محمد بن فارس، وهو أشهر من ابدع في الغناء وفي فن الصوت في الخليج، وأذكر أن المشاركين من دولة الكويت كانوا يقولون أن الفنان محمد بن فارس رحمه الله كويتي الأصل، بينما خالفهم بعض المشاركين البحرينيين الرأي وأصروا على أنه من البحرين، ولأني أؤمن بأن خليجنا واحد تركتهم ورحت أتفقد باقي مرافق البيت الرائع، حتى دخلنا صالة العرض، وكانت صالة مجهزة بأحدث أجهزة الصوت والإضاءة، وبدأت فرقة «محمد بن فارس» في غناء الأغاني الخليجية القديمة.
كان جميع الحضور يشعر ببهجة وغبطة حيث أرجعهم المكان والأغاني إلى ذكرياتهم، لدرجة أنني لم أصدق عيني وأنا أرى الأساتذة الذين كانوا يناقشون أوراق العمل صباحاً بكل جدية، يصفقون ويرددون الأغاني مع الفرقة، ولكن هذا المكان الرائع يجبر أي شخص طبيعي على أن يتفاعل مع ما يدور فيه.
أذكر أنه عندما انتهت الوصلة الغنائية زعلت إحدى المشاركات، وكانت تردد «لا أريد أن أخرج من هذا المكان الرائع»، أريد أن أبقى هنا.. ولكن حان وقت الرحيل، وقال لنا المنظمون حان وقت العشاء في عمارة «بوزبون»، وتوجهنا إلى مكان قريب جداً من بيت محمد بن فارس، مكان يقع في سوق المحرق بالقرب من الحديقة المعلقة ومتاي المحرق المشهور.
وبدأنا بالمشي متجهين إلى العمارة وهنا أخذت أجر رجلي وأسحبها، كنت أريد أن أمشي أكثر في هذا المكان، هنا تحديداً كنت أمسك بيد والدي رحمه الله ونتجه بصورة شبه يومية إلى ورشة عمي إبراهيم رحمه الله للنجارة، ومحل ابن عمتي راشد العامر لبيع المصوغات الذهبية، في هذا المكان تحديداً كنت أراقبهم يتاجرون يبيعون ويشترون، لي ذكريات كثيرة في هذا المكان لن يتسع لها مقالي هذا. الجميل في الموضوع أن عمارة بوزبون تقابل بالضبط ورشة عمي إبراهيم رحمه الله، فدخلت العمارة وأنا أسترجع ذكريات طفولتي ولكن روعة المكان ورقيه جعلني أضع كل الذكريات في زاوية وأتفحص بإمعان روعة ورقي المكان، ولمن لم تتح له فرصة زيارة عمارة بوزبون أدعوكم لزيارتها لكي تشاهدوا كيف ينطق الحجر ويقول معتزاً «أنا بحريني»، مكان رائع بل يفوق مفهوم الروعة بمراحل، جميل، أنيق، مبنى على الطراز البحريني القديم ممزوج بحداثة معمارية لم تتغلب على الطابع الأصيل للمكان.
إن الشيخة مي بنت محمد تقوم بجهد رائع يتطلب من الجميع دعمه، فما تقوم به هو الاهتمام بالموروث الثقافي للمملكة، فهي لا تحافظ على تراثنا وحسب، بل وتحوله إلى لوحات فنية رائعة وأماكن سياحية لا تقل جمالاً وتأثيراً عن الأماكن السياحية العالمية بل تتفوق عليها! والإشراك المجتمعي ضروري جداً في هذا المجال، فلا تستطيع الشيخة مي أن تحافظ على هذا الإرث من الضياع بمفردها، بل يجب علينا جميعاً أن نقف معها ونساندها من أجل استمرار هذه المشاريع الثقافية الأثرية الرائعة التي تعكس الصورة المشرفة لبحريننا الغالية.
لست أنا الوحيدة التي أحست بالذهول من روعة المكان، بل كل أفراد الوفد الخليجي شعروا بذلك، حتى أنني سمعتهم يتهامسون ويقولون «يا ريت عندنا مثل مي آل خليفة» فهنيئاً لنا بكم يا معالي الشيخة.