في طبيعتنا كبشر تلقائياً نرفض «الاستماع» للآخرين، خاصة من يحاولون نصحنا، أو تنبيهنا لأمور هنا وهناك.
أسلحة الدفاع الشخصي تبرز بشكل فوري ومباشر، فلا أحد يحب أن يجلس على رأسه شخص ليقول له «أنت أخطأت»، أو «أسلوبك غير سليم»، أو «المفروض تعمل كذا وكذا».
هذه طبيعة بشرية متأصلة، فالبشر في عمومهم يعملون وهم على قناعة شبه تامة بأن ما يقومون به هو الصواب، وأن الطرائق التي يتبعونها في أداء أعمالهم أو إدارتهم هي أفضل الطرق.
هذه هي الحالة العامة التي توجد لدى كثيرين، وقيسوا ابتداء من الأولاد في المنزل مع ذويهم، مروراً بالزوجة، وحتى الأصدقاء وزملاء العمل، وصولاً إلى علاقة المرؤوسين بالرؤساء.
والحالة الأخيرة بحد ذاتها مشكلة، إذ حين لا يستمع المرؤوس لإرشادات رئيسه فإن عملية التواصل تضيع، والخطأ وارد حصوله، خاصة وإن كانت التوجيهات صائبة وصحيحة.
لذلك حين يتخطى الإنسان الحالة العامة الطبيعية ويكتسب قدرات تتجاوز النمط الطبيعي، هنا يتحول لإنسان استثنائي بالضرورة.
أكرر القول، لا أحد يحب النصح من الآخرين، ولا أحد يحب أن «ينظر» عليه أحد، وحتى المسؤولون لا يحبون الصحافة أن تكشف جوانب القصور في قطاعاتهم، أو أن تنتقدهم وتنصحهم، وليست الصحافة بمعزل إن أردنا الحديث بعدالة، إذ هل رأيتم صحافة أو صحافياً يعتذر إلا في حالات نادرة؟!
لذلك حينما أستمع لقول أحدهم بأن «الاختلاف لا يفسد للود قضية» نسبة الشك في إيمانه بما قال أكبر من التسليم أنه قالها بقناعة، فمجتمعاتنا أصبحت قائمة على التنافسية التي تصل لدرجة الصراع والمواجهة، تبادل المعرفة بات أمراً شحيحاً، والنصيحة اليوم أصبحت بالفعل فضيحة.
لكن كما أقول دائماً «لو خليت خربت»، فالإنسان بيده تغيير هذا النمط، تبدأ العملية من خلال إجراء تصحيح مسارات في قناعاته، والإيمان أولاً بأن الإنسان ليس كاملاً، فلا أحد كامل، ولا أحد معصوم عن الخطأ.
لو بحثنا في ديننا وقيمه وأخلاقياته سنجد دعوات صريحة للتمرد على الأصول في النفس البشرية، دعوات تحض على تطوير الذات وتطويع النفس للتعاطي بإيجابية مع الآخرين ومحاولتهم مشاركتنا الأفكار والانطباعات.
الله عز وجل أورد كلمة «الشورى» في محكم التنزيل دلالة على أهمية التشاور بين البشر، وهذا التشاور لابد وأن يتطرق لجوانب صحة وخطأ. ورسولنا الكريم قال في الحديث الشريف بما معناه أن انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال له صحابته عرفناه إن كان مظلوماً، فكيف إن كان ظالماً، فأجابهم بأن نحجزه أو نمنعه عن الظلم. وأمير المؤمنين الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «رحم الله من أهدى إلي عيوبي».
التفكير السلبي السائد بأن من ينصحنا يريد أن يفضحنا أو يقلل من شأننا أو يستحقر عملنا، وآلية الدفاع المباشرة تدفعنا للرد عليه بأن «انصح نفسك أولاً»، أو الصد عنه باعتبار أنه ترك شأنه وتتبع شأن الآخرين، وهي معادلة خاطئة تماماً، خاصة لو كانت النصيحة من باب البناء والتصحيح وتقديم خدمة للشخص المنصوح، وطبعاً بأساليب راقية، لا بأساليب يتعمد فيها التجريح والتحقير والتطاول.
لكنها عملية لا تنجح إلا بوجود طرفين متفتحي العقل والبصيرة، إذ الإنسان عليه أن يكون منفتحاً لتقبل النصح والنقد الإيجابي وبأساليبه الحضارية، عليه ألا يسمح بأن يشكل المنصب أو «برستيجه» وحتى «حاشيته» نوعاً من «الغشاية» على عينيه، تجعله يصد وينفر من كل نصح وناصح.
ما أسقط وأفشل عديداً من المسؤولين، وأبطل مفعول استراتيجيات وخطط، بل وتسبب في مشاكل متفاقمة، إلا رفض تقبل النقد والنصح، إلا الادعاء غير الصادق بأننا «نتقبل النقد» وأنه «لا يفسد للود قضية».
الإنسان الواثق من نفسه، المدرك لقدراته، يعرف تماماً بأنه في هذا العالم لا يمكنه العيش وحيداً، كونه جزءاً من منظومة، وهي التي تفرض عليه التفاعل والاحتكاك مع الآخرين، وفي هذه الممارسة سيتعرض لمثل هذه المواقف، هناك من سينصحه حباً، وهناك من سيهاجمه كرهاً. والحكمة تكمن في الاستفادة من ملاحظات العقلاء وأصحاب النوايا الصادقة، وعدم التأثر باستهداف الكارهين أو المستهدفين له.
السيطرة على تلقائية النفس البشرية عملية صعبة، تقبل الاختلاف أمر أصعب، لكن متى ما تمكن الشخص منها، سيرى أنه يفتح له آفاقاً أوسع من الحالية، سيستوعب بأن من بين جملة ما يقال له ويصله، هناك أمور بالفعل تخدمه لتحقيق نجاحات أكبر ولتجنب تكرار أخطاء حصلت.
النصيحة «فضيحة» في حالات، لكنها أثمن من «الذهب» في حالات أخرى.