بالرغم من التشابه الكبير للأيام المتداولة بيننا إلا أن كل «يوم» نعيشه في حياتنا له خصوصيته المتفردة التي تميزه عن غيره. فإن كان من السهل الكتابة، والنقد، والثناء، والهجاء، والمدح، لموقف إنسان مر في حياتك وترك أثراً عابراً أو بالغاً كان محل ذكرى أو امتنان، ولكن ما كنت أتخيل يوماً أن أجد نفسي أخط كلاماً وعبارات عن رجل شكلني بحركات ساكنة، لأجد شخصيتي مرفوعة بعزة وكرامة وغير مكسورة لكائن من كان، منفتحة على ثقافات ومحاطة بمعارف وعلوم وثقافات.
منذ أيام قليلة غيب الحق الإنسان الذي سيبقى اسمه مع اسمي ليوم الحق لا يفترقان، إنها مشيئة الواحد الحق في أن يسترجع أمانته لأبقى أنا معه في بحر عميق من الذكريات.
نعم، فقد رحل والدي من دنيا الفناء إلى دار البقاء، رحل من كان ولايزال وسيبقى حبه متربعاً في قلبي إلى يوم بإذن الله أعود وألقاه، رحل من كانت تتلألأ عيناه دمعاً إذا علم أنني أعاني من ألم أو حلّ بي مصاب، رحل من كان يسألني بصوت هادئ هل أصبحت أحسن وأموري على ما يرام؟ رحل من كانت تفرحه ابتساماتي ويعتبرها هدية من رب السماء، رحل من كان يساندني في أيامي الصعاب ولا يعلم الآن ما هو حجم المصاب الذي حل بي عندما علمت أنه لم يعد يجلس معنا في أي مكان كان، رحل من كان يتعصب عليّ عندما أتأخر عليه في موعد ويطول به الانتظار ولكن سرعان ما يتبدل الموقف ليصبح كلامه دعاء موجهاً لرب السماء في أن يوفقني على طول الزمان، عندما أحول الموقف لصالحي، وأنا أمازحه وأشاطره الكلام عن أمر أو طرفة صارت معه منذ زمن، رحل من كان يلمني بيديه، ويهدئ من روعي، عند سماع صوت المدافع والانفجارات، رحل من كان يخبئ هديته في مكان يخفى عن العيون ليفاجئني بها ويرى موقفي ودهشتي، وتكون ابتساماتي بمثابة قهقهات وضحكات من قلب يملأ فرحه من فرحي، رحل من سلمني لزوجي في يوم زفافي، وقال له: «وصيتي لك ألا أرى في عيني صغيرتي دمعة حزن، قهر، أسى أو استياء»، رحل من حمل وليدي وضمه بيديه وهمس في أذنيه «أنت طفل أغلى الناس عندي»، رحل من لا أجد الكلمات والعبارات التي توفي حقه وتوصف مواقفه الحسان، رحل من كان يتعلق بحبر مقالاتي ويفرح ويتصفح الجريدة ليقرأ كلماتي ويعبر عن فرحه وكأنه يقرأ لفيلسوف أو أديب خلدته الأمجاد، ها أنا رغم الحزن الذي يخيم قلبي في مراسم العزاء أطير كالفراشات عندما أسمع من يحدثني عن إنسانيته، طيبته، كرمه وحسن خلقه، وإن كنت أعرفها وعشتها وعايشتها كلها من يوم مولدي ليوم فراقه.
رحمات ربي تتغمدك يا والدي، يا من أبكيت بفراقك كل من عاش معك لحظات حساناً، فكيف أنساك وأنا كلما ناداني شخص قرن اسمك باسمي ليزداد اسمي عزة، رفعة، شهامة، وإباء.