مع انعقاد مؤتمر باريس للسلام عام 1919، الذي أنهى الحرب العالمية الأولى ووضع اللبنات الأولى لتأسيس «عصبة الأمم»، بدأت الدول العظمى، وكانت حينذاك أربعة دول فقط «فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، وأمريكا» في بسط نفوذها حول مختلف بقاع العالم عن طريق تقسيم المناطق الجغرافية كغنائم مستحقة لها. واستمرت هذه الدول في استغلال خيرات المناطق التي استعمرتها حتى قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939، والتي انتهت في 1945 مع تأسيس الأمم المتحدة. وساهمت تلك الحرب في زيادة غنائم دول الحلفاء وبسط هيمنتها ودعم نفوذها على الدول التي استعمرتها بموجب وثائق الاتفاقات التي أنهت الحرب.
الهيمنة عن طريق الاستعمار العسكري
استطاعت الدول العظمى – التي ازدادت لتصبح سبع دول، بإضافة روسيا وألمانيا وكندا – الاستفادة من التقنيات المتقدمة والتراكم المعرفي، وسخرّت مخرجاتها الصناعية، لزيادة نفوذها وبسط سيطرتها على العالم، بأساليب وطرق تختلف بين كل قوة عظمى وأخرى، ولكن من خلال تنسيق عالي المستوى فيما بينها، لتستغل خيرات الشعوب شرقاً وغرباً، لتصب في نهاية الأمر مع مصالح مجتمعاتها التي تطورت بناها التحتية وأنظمتها الاقتصادية من خيرات الدول النامية. وتنوعت مشاريع الهيمنة، باختلاف الدولة المهيمنة، فتارة عن طريق إنشاء مستعمرات ومحميات في صورة قواعد عسكرية تضمن لها إمكانية تدخلها السريع لحماية مصالحها أينما وجدت. وساهم اكتشاف النفط في الشرق الأوسط على زيادة اهتمام الدول العظمى بهذه المنطقة، حتى أصبحت خلال الحرب الباردة من أهم المناطق الاستراتيجية في العالم أجمع، ولاسيما في ظل وجود إسرائيل كجزء من هذه المنطقة المهمة. ويمكن الرجوع للخرائط الجغرافية للحصول على عدد القواعد العسكرية والمستعمرات التي انتشرت حول العالم حتي الربع الثالث من القرن المنصرم لمعرفة حجم النفوذ الغربي في مختلف دول العالم.
النفوذ في ظل الأزمة الاقتصادية
كانت الدول العظمى توهم الجميع بأن وجودها في أي بقعة جغرافية هو جزء من مهامها السامية للمحافظة على «أمن النظام الدولي»، وضمان عدم تعدي دول الجوار على بعضها البعض، كما كان يحدث في السابق. ولكن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 كان البداية الأولى لانهيار هذه العملية، والتي أفرزت وضعاً إقليمياً غير مستقر في منطقة الشرق الأوسط، ساهم – من وجهة نظري – في اهتزاز الاقتصاد العالمي، رغم دورات الكساد الاقتصادية المعلومة.
ولعل آخر الأمثلة على عدم قدرة الدول العظمى على ممارسة نفس الدور التاريخي من خلال الاستعمار العسكري هو ما حدث في سوريا بعد التدخل الروسي في ذلك الصراع الدموي، والذي ذهب ضحيته حتى الآن ما لا يقل عن 300 ألف مواطن برئ. فالحسابات الروسية التي أقنعت إدارة بوتين بضرورة التدخل لمنافسة النفوذ الأمريكي في المنطقة، الذي بدأ يضعف بسبب استنزاف الخزينة الأمريكية بعد الغزو العراقي. وهو ما يمكن قراءته في تردد الإدارة الأمريكية في اتخاذ قرار حاسم لإنهاء الصراع بأسلوب «الكاوبوي» المعروف، بل واختيار حلفاء هم جزء أساس من المشكلة السورية، مثل الإيرانيين.
لذلك، كان الانسحاب هو الحل الأمثل أمام الرئيس بوتين لضمان الحصول على الكعكة، أو الجزء المتبقي منها، بعد ما برزت دول مجلس التعاون بقيادة المملكة العربية السعودية كعامل أساس لبسط الحل المرجو في المشهد السوري من خلال التلويح بالتدخل العسكري الذي بدأت بوادره مع مناورات «درع الشمال».
النفوذ القائم على المعرفة: النموذج الصيني
يجب أولاً الاتفاق على أن الصين قد دخلت منظومة القوى العظمى بنموذج مختلف تماماً عن جميع النماذج الأخرى التي ضمنت للدول الغربية وروسيا مكانتها كقوى عظمى. فالنموذج الصيني، على الرغم من أنه قد بدأ منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، إلا أنه لم يتحول إلى نموذج عالمي يحتذى به إلا مع بداية القرن الحادي والعشرين.
وهناك العديد من المؤشرات العلمية الرصينة، والتقارير الاقتصادية الصادرة من المنظمات العالمية المعنية، التي تبين أن الاقتصاد الصيني سيتجاوز الاقتصاد الأمريكي بحلول العام 2029، وسيكون بذلك أكبر اقتصاد عالمي دون منافس. ومعنى ذلك أن الصين ستتمكن من الهيمنة على العالم، وبسط نفوذها شرقاً وغرباً، دون لجوئها إلى الحروب أو التدخلات العسكرية، أو حتى إنشاء قواعد عسكرية، كما هو الحال مع النموذج الغربي الذي كان سائداً منذ بداية القرن العشرين وحتى نهايته.
الانسحاب الذكي
لذا، فإنني أرى أن الانسحاب الروسي من المستنقع السوري كان انسحاباً تكتيكياً ذكياً، استطاع الرئيس بوتين من خلاله تحقيق أكثر من هدف، بعدما تلاعب في الأمن الإقليمي كما يحلو له، تحت أنظار أمريكا وحلف «الناتو»، الذي لم يستمكن من مجاراة المناورة الروسية، بسبب الأوضاع الاقتصادية العالمية.
وبالإضافة إلى الأسباب التقليدية المتعلقة بالاقتصاد الروسي المنهار والمشاكل التي تواجه بوتين بسبب تدخل روسيا عسكرياً في أوكرانيا، ربما يعود سبب انسحاب روسيا من الحرب السورية هو موقعها الجغرافي، الذي أتاح للحكومة الروسية المقارنة بين النموذج الصيني والنموذج الغربي. فللدخول إلى منظومة الدول العظمى، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينيات من القرن الماضي، كان لابد على الرئيس بوتين القيام ببعض المغامرات العسكرية لبيان القوة الضاربة الروسية، فكانت أوكرانيا أولاً، ثم سوريا ثانياً، هما بوابة الدخول إلى معترك القوى العظمى.
ثم جاء الانسحاب الذي سيضمن لروسيا بعض المشاريع الاقتصادية المشتركة مع دول الجوار، والذي سيعطي الحكومة الروسية دفعة قوية، هي في أمس الحاجة لها في الوقت الراهن.
* المدير التنفيذي
لمركز «دراسات»