بعد ساعتين من البحث في «الروزنامة السنوية» الموجودة على سطح المكتب والتفتيش والتنقيب في الهاتف الجوال، أنهت صديقتي مهمتها بعمل جدول يضم كافة المناسبات بتواريخها، حيث كانت تقوم بعملها وهي حريصة كل الحرص ألا تسقط منها بالسهو أو الخطأ مناسبة عائلية، سواء كانت اجتماعية، أو مناسبة معتمدة أو مرتقبة، وآخذة في حسبانها الأعياد الوطنية، والدينية.
بعدما فرغت وعيناها يخيم عليهما الإجهاد والتعب، من كثرة التركيز والتمحيص، وبكثير من التفكير والتعديل، سألتها: «لماذا كل هذا العناء، أهذا كله يجب أن تقدميه لعملك؟ ولكن لفتني وجود أعياد ميلاد أبنائك وأصدقائك وأقاربك، فما علاقة هذا كله بعملك وطبيعته؟»، ردت بكل هدوء: «هذه المهمة التي أقوم بها ليست للعمل، وإنما لي أنا شخصياً»، ففي كل مناسبة أو موعد وارد ذكره في هذا الجدول، لابد أن أقوم بزيارة للأشخاص المذكورة أسماؤهم وأقوم بتأدية الواجب الاجتماعي معهم. نظرت لصديقتي نظرة إعجاب وإكبار على حرصها على التواصل مع من تعرف وتحب بكل هذه المودة والطيبة، وحرصها ألا يفوت عليها واجب أساسي أو هامشي، ولكن سرعان ما تبدلت نظرة الإعجاب إلى «صدمة داخلية»، عندما علمت أنها لا تتقابل مع الأشخاص المذكورة أسماؤهم، ولا تتواصل معهم، إلا بسبب ما يعرف «بالواجب الاجتماعي»، هذا الواجب الخالي من أية «روحانية» تذكر، أو «مشاعر» تفرد له، وكل جزعها من تلك القائمة الغنية بأصحابها الفقيرة بمشاعرها، كي تسقط صديقتي من قائمة «الأشخاص المقصرين عمداً أو بالغلط»، ومن ثم من المحتمل أن تصبح حديث «جلسات الحريم في السر والعلن»، وأنها بهذه الطريقة، تحفظ نفسها من اللوم والعتب! يعني هذا الفعل المزمع تنفيذه، لا يفسر عن كونه تواصلاً اجتماعياً بارداً، يكلف به الشخص لإرضاء طرف آخر أو مجموعة. وبعد تفكير ملي بما يدور بيني وبينها من حوار ونقاش، لا يمكن أن أنكر أن حالنا الآن أصبح على هذا الحال الجاف. فقد بردت علاقاتنا الاجتماعية في يومنا هذا إلى حد الجليد.
وأرجع وأبرر كل هذا التغيير الذي توغل على أسلوب حياتنا وإن كنت أعطي له العذر، أننا نعيش في فلك حياة سريعة بكل مفرداتها، سرعة تمكنت من سرقة لذة الانسجام والاستمتاع باللحظات الجميلة التي تجمعنا مع من نحب مهما كبر حجمها أو صغر، وتعطي قيمة حقيقية لمشاعر نعيشها من أن يتمحور سياقها على أنها «واجب» لا أكثر.
ولكن لابد أن نستيقظ من هذه الغفلة الجامحة وأن ندفن تحت التراب ما يعرف «بالمجاملات الباردة»، وأن نسارع قبل فوات الأوان إلى إحياء التواصل الطيب والرحمة بين بعضنا البعض، وأن يكون هدفنا من هذا التواصل هو استمرارية العلاقات الاجتماعية الإنسانية بتجرد، لإضافة إشراقة جميلة إلى حياتنا اليومية. فقد صدق الإمام الشافعي حيث قال:
إذا لم يكن صفوُ الوداد طبيعة
فلا خير في خل يجيء تكلفا