استكمالاً لما تم توضيحه في المقال السابق بشأن العقود الإدارية، فإن العقود التي تبرمها الجهة الإدارية «الوزارة أو الهيئة أو المؤسسة العامة أو أية جهة حكومية أخرى»، سواء مع أشخاص عامة أخرى أو أشخاص خاصة ليست كلها عقوداً إدارية، وهذه الأخيرة هي التي تستهدف تحقيق مصلحة عامة تجد مبرراتها في تنظيم وتسيير المرافق العامة المختلفة بانتظام وباطراد، حيث تتمتع جهة الإدارة فيها بسلطات استثنائية لا مثيل لها في علاقات الأفراد في ظل القانون الخاص.
وعلى الرغم من هذه السلطات الممنوحة للإدارة في هذا النوع من العقود، إلا أنه ليس لها مطلق الحرية في ذلك، إنما تتقيد بما تنص عليه القوانين والقرارات واللوائح بما يضمن حقوق المتعاقدين معها.
وإذا كانت نظرية العقود الإدارية تستمد بعض أحكامها من قواعد القانون الخاص «القانون المدني...»، فإن أهم الأحكام المتعلقة بها هي من صنع القضاء الإداري، حيث يجتهد القاضي الإداري في استنباط الأحكام نتيجة لعدم وجود الجزاءات والحلول كنصوص مكتوبة نفس تلك الموجودة في القانون المدني، ومن ثم فإن القواعد القانونية المتعلقة بالعقد الإداري تتميز عن القواعد القانونية التي تحكم العقود الأخرى في القانون الخاص التي تبرم بين أطراف عادية «شركات أو أفراد».
وحيث إن العقود الإدارية تتصل بالمرفق العام، وتبرمها سلطة عامة لتسيير هذا المرفق، فلابد إذاً من وجود تمييز بين المركز القانوني لطرفي العقد، حيث تتفوق جهة لإدارة على الأفراد، بحكم مسؤوليتها عن تحقيق المصلحة العامة، وضمان تسيير المرفق العام التذي تديره باستمرار وباطراد، وبذلك فإنها تتمتع بسلطات استثنائية وخطيرة تجاه المتعاقِد معها، وإنْ كان هذا لا يمنع من تمتع المتعاقد مع جهة الإدارة ببعض الحقوق مثل تحقيق التوازن المالي للعقد وحقه في التعويض عن إخلال الإدارة بالتزاماتها.
وبالتالي فإن قيام جهة الإدارة بالإشراف على دوام سير وانتظام المرافق العامة بانتظام وباطراد هو الذي يبرر سلطتها الاستثنائية، حيث يجوز لها أن تعدل في العقد لمواجهة ما قد يطرأ من ظروف أثناء تنفيذه، دون أن يحتج المتعاقد معها بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين «أي أنه لا يجوز لأي من الطرفين التعديل إلا بموافقة الطرف الآخر، أو أن يكون منصوص على ذلك في العقد».
كما إن لجهة الإدارة أن توقع الجزاءات على المتعاقد معها مباشرة دون حاجة للجوء إلى القضاء، كما أن لها أن تنهي العقد في أي وقت دون أن يحتج المتعاقد معها بوجوب تنفيذه، ذلك أن مبدأ العقد شريعة المتعاقدين يمنع جهة الإدارة، في هذه الحالة، من الحفاظ على مبدأ دوام حسن سير المرفق العام من حيث عدم استطاعتها تعديل العقد أو إنهاءه أو الرقابة عليه إلا بموافقة المتعاقد معها.
ويستمد العقد الإداري قواعده، إما من نصوص تشريعية تنظم جانباً أو أكثر من جوانبه، وإما من أحكام القضاء الإداري.
ذلك أن نظام جزاءات العقد الإداري -والذي هو في مجموعه من صنع القضاء- أصبح اليوم يشكل نظرية لها مقومات وأصول تنفرد بها، حيث أصبحت لجهة الإدارة وسائل فعالة من خلال ذلك النظام، تضمن بها تنفيذ العقد إذا عجز المتعاقد معها عن الوفاء بالتزاماته، وفي الوقت ذاته يقرر النظام للمتعاقد مع الإدارة ضمانات لحماية حقوقه في مواجهة سلطة الإدارة.
ويفترق العقد الإداري عن العقد المدني في الأمور الآتية:
1 - العقد الإداري يتميز عن العقد المدني بطابع خاص، مناطه احتياجات المرفق العام الذي يستهدف العقد الإداري تسييره وسد احتياجاته وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الفردية الخاصة بصدده، بينما العقد المدني يستهدف طرفاه تحقيق نفع مادي ومصلحة شخصية.
2 - تتبع في شأن إبرام العقد الإداري أساليب محددة نص عليها القانون، مثل المناقصة العامة أو المحدودة أو الممارسة أو الشراء المباشر أو المزايدة، بالإضافة إلى ذلك يخضع إلى قواعد محددة يُنص عليها في دفاتر الشروط الملزمة للطرفين، بينما العقد المدني تحكمه بنود العقد المبرم بين الطرفين.
3 - تتبع جهة الإدارة في العقد الإداري أساليب القانون العام وذلك بتضمينه شروطاً استثنائية غير مألوفة في القانون الخاص. وقد تكون هذه الشروط مقررة لصالح الجهة الإدارية «مثل حقها في تعديل العقد وحقها في إنهاؤه في أي وقت وحقها في توقيع الجزاءات في حالة إخلال المتعاقد معها بالتزاماته»، بينما قد يكون بعضها لصالح المتعاقد مع الإدارة كونه معاوناً لها «مثل حق تملك بعض الأراضي القريبة للمشروع لوضع المعدات، وحق استخدام سلطات البوليس، وبعض الإعفاءات الجمركية والضريبية» بينما في العقد المدني تسمو قاعدة العقد شريعة المتعاقدين وتتساوى كفتا أطراف العقد.
4 - مصالح جهة الإدارة في العقد الإداري تفوق وتعلو مصلحة المتعاقد معها، كون الإدارة مسؤولة عن حسن سير وانتظام المرفق العام، وبالتالي لها سلطة الرقابة والتوجيه وتعديل العقد وإنهاؤه في أي وقت، وتوقيع الجزاءات الإدارية والمالية دون حاجة للجوء إلى القضاء، بينما في العقد المدني تتساوى المصالح للطرفين ولا يستطيع أي طرف اتخاذ أي إجراء غير منصوص عليه في العقد إلا بموافقة الطرف الآخر.
5- عند غموض نص في العقد الإداري، فإن قواعد التفسير أول ما تلجأ له هو المصلحة العامة، إذ يجب تفسير كافة نصوص العقد في إطار تحقيق المصلحة العامة أولاً، أما عند تفسير نصوص العقد الخاص، حيث تتساوى مصلحة الطرفين، فإنه يتعين اللجوء إلى قواعد التفسير العادية.