لعل من أهم القضايا التي ربما يعتبرها البعض من الأمور الهامشية أو من الأشياء التي تعتبر غير ذات جدوى في ظل التغيرات السياسية الكبيرة التي يشهدها العالم اليوم هي مسألة الالتزام بالنظام العام والمحافظة على تفاصيل السلوك الذي يفضي إلى بناء الدولة الحديثة، بعيداً عن المحاصصات الطائفية والسلوكيات غير الحضارية التي تهدم قواعد الدول.
لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بعيداً عن الحديث عن أهمية الالتزام بقواعد السير، كما لا يمكن الحديث عن قداسة الحريات ونحن مازلنا لم نتحرر من أغلال «المحسوبيات والواسطات والشللية»، وغيرها من المعاني التي تقف سداً منيعاً ضد الحريات الحقيقية، ولا يمكننا التطرق إلى التضحيات بالدم والأرواح لتعبيد طرق الدولة المدنية ونحن لا نطيق الوقوف في طوابير الانتظار ولو لدقيقة واحدة في مؤسسات الدولة كبقية أفراد الشعب!
الأمور الكبيرة تبدأ عادةً بأشياء صغيرة جداً لكنها في غاية الأهمية، فمن لا يستطيع الصبر لمدة «ربع ساعة» على كرسي الانتظار في مؤسسة حكومية لإنجاز معاملة، فإنه لا يستطيع أن يصبر على جمر التغيير نحو الحرية والديمقراطية، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي، فالتغيير يبدأ من الإنسان نفسه، بمعنى آخر، أنه يبدأ من الداخل وليس من الخارج، وما دون ذلك من ثرثرات وشعارات فإنها لا تعدو أن تكون مجرد أوهام وربما خدع قد لا تنطلي على الجمهور الذي بدأ يعي حقيقة الإخلاص والصدق والوطنية.
فلنجرب النظام واحترام خصوصيات الآخرين وتقديس المواعيد والالتزام بالقوانين التي تحمي الحقوق والممتلكات والأرواح وكذلك الالتزام بأبسط قواعد المرور والطوابير المنتظمة داخل الدولة، قبل أن نطالب من حولنا بتداول السلطة وطرح برامج وهموم كبيرة كالديمقراطية وتغيير الواقع السياسي، وغيرها من الهموم الكبيرة، فمن كان عاجزاً عن الأولى فهو عن الثانية أعجز، وبمعنى أكثر دقة، فمن لم يصبر على المقدمات فإنه لن يستطيع تحمل النتائج.
يجب على كل أفراد المجتمع المدني أن يكونوا أوفياء للنظام العام، وأن يلتزموا بقواعده وأصوله، لأن الحديث عن قيام دولة حرة ومدنية وعادلة لا يستقيم مع سلوكيات مجتمع لا يطيق الالتزام بالنظام الذي يحمي أرواحهم وينظم حياتهم وسلوكياتهم في كل مكان يمكن أن يتواجد فيه الإنسان المحترم.
إن من أول عتبات الوقوف على سلم «النظام العام» هو الالتزام بقواعده وكشف المتجاوزين والمخالفين له من المفسدين الذين ينخرون في جسده، بدءاً من السارقين للمال العام وانتهاء بالمخالفين لقواعد السير والمرور، فحين يلتزم أفراد المجتمع بكل تفاصيل النظام العام، بعد ذلك يمكن لهم الحديث عن قضايا سياسية كبيرة وعن أفكار تدعو إلى التغيير والديمقراطية، فمن كان صدره ضيقاً من الوقوف في طوابير صيدلية في مشفى عام، فإن صبره سيكون أقل من أن يتحمل ما قد تفرزه الديمقراطية التي من المؤكد أنها ستقذفه خارج النظام الاجتماعي والعقدي حين لن يحترم نفسـه.