من بديهيات السياسة الدولية أن تثور الخلافات والمنازعات بين الدول حول المصالح والحقوق وقد تؤدي لحروب خطيرة، ولهذا نص ميثاق الأمم المتحدة في الديباجة «أن شعوب الأمم المتحدة قد آلت على نفسها أن تنقذ الأجيال القادمة من ويلات الحروب». وفي المادة الأولى من الميثاق «أن من المقاصد» حفظ السلم والأمن الدولي وإنماء العلاقات الودية بين الأمم وفي المادة الثانية فقرة 3 «يتعهد الأعضاء بفض منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية». والفقرة الرابعة «امتناع الأعضاء عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة أراضي الدول الأخرى أو استقلالها السياسي».
وبحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي احتلت اليابان جزرهما وبعض أراضي دول المنطقة في فترة ما بين الحربين ثم انسحبت بعد هزيمتها بناء على شروط الاستسلام وإعلان القاهرة في أول ديسمبر 1943 بعد مؤتمر القاهرة الذي عقد في 27-28 نوفمبر بين الرئيس الأمريكي روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل، والرئيس الصيني تشانج كاي تشيك، الذي نص على انسحاب اليابان من جميع الأراضي والجزر التي احتلها أثناء الحرب في المحيط الهادي، وذكر بالاسم «تايوان» لأهميتها. ونصت المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة على تسوية المنازعات بالطرق السلمية مثل المفاوضات والمساعي الحميدة والوساطة والتوفيق والوسائل القضائية وهي التحكيم والقضاء. ونصت المادة 36 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية أن اختصاصها يشمل جميع القضايا التي يعرضها المتقاضون. والمادة 40 أوضحت أن القضايا ترفع للمحكمة إما بإعلان الاتفاق الخاص وإما بكتاب رسمي ويجب تعيين موضوع النزاع وبيان المتنازعين. كما أن الاتفاقية الدولية لقانون البحار عام 1982 نصت «على أن التقاضي بشأنها يكون باتفاق الأطراف للعرض على المحكمة الدولية أو محكمة التحكيم». ومعروف أنه في حال المحكمة الدولية فلابد أن يقبل الطرفان الاختصاص الإلزامي للمحكمة. أما في محكمة التحكيم فإن الأطراف المتنازعة تتفق على وثيقة موقعة توضح موضوع النزاع والأطراف والقانون الواجب التطبيق والالتزام بتنفيذ قرار المحكمة. والسؤال المطروح، لماذا تحدث النزاعات في بحر الصين الجنوبي أو بحر الصين الشرقي الآن بعد مضي فترة من الزمن منذ الحرب العالمية الثانية وانسحاب اليابان من تلك الأراضي والجزر التي احتلتها؟ وكيف يمكن حسم النزاعات وتسويتها بين الأطراف المتنازعة؟
وللإجابة على السؤال الأول، نقول إن النزاعات من المفترض أنها انتهت منذ الحرب العالمية الثانية، ولكنها عادت نتيجة 3 عوامل، أولها تداعيات الحرب الباردة وعودة قوتين عظميين للتنافس على مناطق عديدة في العالم. وبعد انهيار القطبية الثنائية سعت القوة التي انتصرت للسيطرة على العالم بأسره وهو ما رفضته القوى الصاعدة في كل منطقة. وثانيها، وجود دراسات دولية تشير إلى أن بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي بهما احتياطات ضخمة من النفط والغاز والثروات المعدنية. وهذا أثار مطامع الدول في الحصول على تلك الثروات، وثالثها الصعود السلمي للصين منذ الإصلاح والانفتاح عام 1978، وهو ما أثار دولاً أخرى ترغب في الحفاظ على سيطرتها في مناطق عديدة، تماشياً مع نظرية ماهان «أن من يسيطر على البحار يسيطر على العالم»، والتي طبقتها بريطانيا والولايات المتحدة منذ بداية القرن العشرين، وأنشأت العديد من القواعد البحرية في مناطق متعددة من البحار والمحيطات.
إذن الاعتبارات الاستراتيجية والاقتصادية هي الدوافع وراء إثارة النزاعات مجدداً، بعد أن وضع ميثاق الأمم المتحدة والاتفاقية الدولية لقانون البحار حداً لتلك النزاعات، وأكدت احترام سيادة الدول على أراضيها ومياهها الإقليمية والجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة.
وبالنسب للسؤال الثاني، نقول إن فض المنازعات بالطرق السلمية هو الوسيلة المثلى لذا يلزم امتناع كافة الدول عن التحريض ضد الدول الأخرى، أو التدخل في شؤونها الداخلية بأية صورة أو التوسع في مناطق أخرى، ولذا فمن الضروري احترام حقوق الدول الأخرى، والالتزام بمبدأ عدم التوسع وعدم السعي للهيمنة، فهذه المبادئ جلبت الكوارث على العالم بالحروب التي ارتبطت بألمانيا وإيطاليا واليابان، بنزعاتهم العسكرية على حساب دول ومناطق وجزر شرق وجنوب شرق آسيا، ولهذا فإن ميثاق الأمم المتحدة وضع مادة باسم الدول المعادية، وهي ألمانيا وإيطاليا واليابان، وهي دول المحور التي انهزمت في مواجهة دول الحلفاء التي انتصرت. ولكن التغيرات الاستراتيجية بعد سنوات قلائل من انتهاء الحرب أدت للحرب الباردة، وتغيرت علاقات وسياسات الدول وتحول الأعداء لأصدقاء مقابل الحصول على قواعد عسكرية فيها. وتحولت دول المحور للتحالف مع القوى الغربية وتحولت الصين والاتحاد السوفيتي لدول معادية، وفرضت عليهما سياسة الحصار والاحتواء التي وضعها جورج كينان. ثم جاء الصعود السلمي للصين ليمثل تهديداً للقوى المسيطرة وهو ليس كذلك لأن تاريخ الصين القديم والحديث ليس فيه احتلال دولة أخرى حيث تركز على القوة الناعمة وهي التجارة والثقافة والاستثمار. «يتبع».
* خبير في الدراسات
الاستراتيجية الدولية