بعد أن أخذت النيابة العامة أقوال الأخت المغردة «غادة سبت» في الشكوى التي رفعها رئيس مجلس النواب ضدها ستقرر النيابة العامة ما إذا كانت ستحفظ القضية أو إحالتها للمحكمة، فإما أنها ستعتبر ما كتبته الأخت غادة حقاً مكفولاً لها في تقييم «أداء» شخصية عامة منوط بها خدمة الناس، أو أنها ستعتبر ما كتبته قذفاً وسباً في حق معالي الرئيس.
فإن أحالتها للمحكمة فإن الجلسات لن تكون حينها لامتحان نوايا المغردة ولمعرفة مقاصدها هل هي للصالح العام أو للإساءة لشخص الرئيس فحسب، بل ستكون الجلسات حين ذاك مخصصة لإثبات صحة الانتقادات التي وجهتها للرئيس من افترائها، حتى يتبين للقاضي سلامة نية المغردة، بمعنى أن الجلسات ستخصص لتقييم أداء رئيس المجلس علناً!!
وبغض النظر عن حق الجميع في اللجوء للقضاء إلا أننا ننتهز هذه الفرصة وهذه الحالة تحديداً حتى نرسو على بر في قضية أشغلتنا كثيراً وهي الحد الفاصل بين النقد وبين القذف والسب، ولأن طرفيها هذه المرة رئيس لمجلس النواب والطرف الثاني شخصية معنية بالشأن العام ولها حساب معروف على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنها ستكون فرصة كي ننهي هذا الجدل ونتفرغ لما هو للصالح العام ولكي ندير اختلافاتنا دون أن تنشأ بيننا خلافات، مصير هذه الدعوى ربما يضع حداً لهذا اللبس المتكرر.
فلا بد أن تتضح الصورة للجميع للشاكي والمشكو عليه، وتتضح الصورة لنا جميعاً خاصة المعنيين بالشأن العام في الخط الفاصل والفرق بين ما يعد جريمة سب وقذف وبين ما هو حق دستوري في التعبير في انتقاد أداء الشخصيات العامة، الأمر الثاني الذي نود أن يكون معرفة عامة، أنه في حال ذهبت مثل هذه القضايا للمحكمة ما هي مجرياتها القانونية؟ ما الذي يتعين إثباته؟
بشكل عام نفهم أن «أداء» الشخصية العامة والمنوط بها تقديم خدمات عامة هو أداء معرض للنقد حتى وإن كان نقداً ساخراً لاذعاً، فأداؤه من أفعال وأقوال وقرارات تتخذ في إطار اختصاصه وسلطاته هو مما يملك المواطن حق انتقادها ويعد إبداء الرأي في ذلك الأداء حقاً وملكاً مشاعاً للناس، ولا يعد جريمة بل ربما عد واجباً للرقابة الشعبية المطلوبة، وحقاً مكفولاً دستورياً للمواطنين.. هذا رأي ومبدأ قانوني.
أما إن كان النقد خارج حدود السلطات والاختصاصات للشاكي أي في حياته الخاصة وبيته وشرفه وعرضه فإن المساس بها ممنوع ومجرم.
وواقعياً هناك قضايا عديدة أدين بها كتاب رأي تجاوزوا فيما كتبوه وعبروا عنه حقهم في إبداء الرأي بأداء الموظف العام أو الشخصية العامة، إلى المساس بعرضه وشرفه وبأمور لا علاقة لها بسلطاته واختصاصاته ولا حتى بأماناته وبالمهام المكلف بها فعد ذلك سباً وقذفاً، وجاء الحكم ليدين تلك الممارسات الخارجة عن الحق الدستوري المكفول للتعبير عن الرأي، ثم استكملت تلك القضايا مسارها ضد الكتاب بدعوة مدنية طالب المتضررون فيها برد الاعتبار وبغرامة مالية وتم تنفيذ الحكم ودفعتها الصحيفة، وأحياناً تتخلى الصحيفة عن الكاتب ولا تقبل بالتضامن معه فيضطر أن يدفعها من جيبه الخاص.
وهناك قضايا أخرى صدرت فيها أحكام اعتبرت النقد الخاص بالأداء ليس جرماً، وهناك قضايا طلب من الكاتب أن يثبت حسن نواياه بإثبات صحة التقييم الذي نقد به أداء الشخصية العامة، أي أن القضية تصل للمحكمة ويختلف مسارها وتكييفها القانوني، فيطلب القاضي من الكاتب أو المغرد أحياناً أن يثبت صحة ادعاءاته بأنه نقد هذه الشخصية العامة بغية الإصلاح، ونستعين هنا بمبدأ قانوني واضح فصلته محكمة النقض المصرية في القضية رقم 1227 لسنة 09 مجموعة عمر 4ع صفحة رقم 557 بتاريخ 22-05-1939.
«إن القانون -في سبيل تحقيق مصلحة عامة- قد استثنى من جرائم القذف الطعن في أعمال الموظفين العموميين أو الأشخاص ذوي الصفة النيابية العامة أو المكلفين بخدمة عامة متى ما توافرت فيه ثلاثة شروط: «الأول» أن يكون الطعن حاصلاً بسلامة نية أي لمجرد خدمة المصلحة العامة مع الاعتقاد بصحة المطاعن وقت إذاعتها. و«الثاني» ألا يتعدى الطعن أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة. و«الثالث» أن يقوم الطاعن بإثبات حقيقة كل أمر أسنده إلى المطعون فيه. فكلما اجتمعت هذه الشروط تحقق غرض الشارع ونجا الطاعن من العقاب. أما إذا لم يتوافر ولو واحد منها فلا يتحقق هذا الغرض ويحق العقاب».
وبناء عليه فإن قضية رئيس مجلس النواب على المغردة غادة سبت ستوضح لنا التوجه العام للسلطة القضائية، فإن رأت النيابة أنه ليس على المغردة حرج وأن نقدها لم يتعد «أداء» رئيس مجلس النواب في حدود اختصاصه وسلطاته فستحفظ القضية ولن تحال للمحكمة، وإن رأت النيابة أن هناك «سوء نية» فقد تحيلها إلى المحكمة، وحينها ستكون للقاضي سلطته التقديرية للحكم على نوايا المغردة، وقد يسمح لها هنا بالدفاع عن نفسها وسيكون تقييم أداء رئيس المجلس علنياً ومعروضاً على الجميع، وكلنا سنكون آذاناً صاغية لأن المسألة الآن أصبحت قضية رأي عام والباب سيكون مفتوحاً لمزيد من الآراء حول هذا الموضوع.