توهمت الكثير من الشعوب العربية ومعها الكثير أيضاً من المنظمات والمجاميع المسلحة طيلة الأعوام الأخيرة أن الثورات هي الحل الأمثل للتغيير، دونما الحاجة إلى عناوين ومقدمات أخرى كالإصلاح أو المشاركة في الحكم ومن ثم بعد ذلك الانتقال للديمقراطية الكاملة عبر صناديق الاقتراع وليس عبر السلاح أو الإرهاب، وهذا الأمر السلس بطبيعة الحال يتطلب وعياً بأهمية المرحلة إضافة إلى ضرورة أن تتدرب الشعوب بشكل تدريجي على مفاهيم كبيرة تتعلق بالحكم، كالحرية واحترام الآخر وقبوله، لتكوين أرضيات تصلح لطرح الديمقراطية لأجل المستقبل.
ما رأيناه رأي عين خلال الأعوام الخمسة الأخيرة أن غالبية الشعوب العربية التي خاضت تجربة ما يسمى بـ«الربيع العربي» لم تكن تدرك أهمية وقدسية الوسائل قبل إدراكها قيمة التغيير، فالقوة التي استخدمتها تلكم الشعوب من أجل ركوب قطار الديمقراطية لم تكن تتسق وطبيعة سكته، التي كانت تحتاج إلى بعض الهدوء والتروي قبل أن تسير في طرقات وعرة نحو التغيير، لكنها آثرت أن تميل نحو الوسائل العنيفة تارة وتارة أخرى استخدمت وسائل صلبة وقاسية أدت إلى فشل غالبية التجارب المؤدية إلى فضاءات الديمقراطية، بل إن عجلة التغيير كانت أكثر اندفاعاً من طبيعة الوعي فكانت الكارثة.
على إثر هذا الأمر المهول، وبسبب قوة طغيان العاطفة الجماهيرية في الوطن العربي والحماسة الزائدة «حبتين» سقط بعض الحكام ولم تسقط أنظمتهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن الخلاص يكمن في سقوط الحاكم لا النظام، وهذه الأمور من السذاجة الكبيرة التي تورطت فيها تلكم الشعوب، حيث استطاعوا أن يسقطوا الحكام ولكنهم لم يستطيعوا أن يحصلوا على الديمقراطية، بل وجدنا أن حراكهم الثوري الذي أسقط بعض الحكام لم يسعفهم ويدلهم نحو حركة التغيير، حتى جاؤوا بأنظمة مشوهة ومهجنة ولدت من دون ملامح حيث لم تستطع أن تسير وفق الرؤية الكبيرة نحو الديمقراطية.
نحن نؤكد على مطالب الشعوب العربية وربما نتفق معها في مصيرها وحلمها بالديمقراطية الكاملة، لكننا بكل تأكيد نتحفظ على الوسائل التي تفضي نحو مجالاتها إذا كانت تحمل في رحمها بذرة العنف وسياسة كسر العظام، فالديمقراطية ليست بالصورة التي يحلم بها البعض، كما أنها ليست معادلاً لديكتاتوريات موازية لأنظمة قد لا نراها صالحة للحكم، وإنما حق الشعوب في تقرير مصيرها يسبقه الكثير من الوعي بأهمية تقبل الآخر وقبوله واحترام المختلف والإيمان بالتعددية السياسية والدينية وغيرها من أبجدياتها، قبل الحديث عن الدولة الفاضلة أو البحث عنها بين ركام الجثث والدماء والأشلاء والعنف والكراهية والدمار، فكل مقدمات الديمقراطية تكون واجبة وحاضرة في وعي الشعوب العربية قبل الحديث عن استخدام أي نوع من أنواع السلاح والمتفجرات التي يمكن لها أن تزيح حاكماً ولكنها لا تزيح حكماً.
نحن مع السلاسة الطبيعية على طريق الديمقراطية، وضد كل أشكال العنف الذي قد يصل في كثير من مراحله لعناوين خطيرة كالإرهاب والترهيب، وهذا ما يجب أن تؤمن به الشعوب قبل أن تؤمن بأن الديمقراطية مجرد مزحة أو شهوة سياسية عابرة.