قال لي صديقي: خلاص قررت أن أغلق كل حساباتي في وسائل التواصل الاجتماعي. سأغلق حساب «التويتر» الذي فتحته من 7 سنوات، وحساب «الفيسبوك» الذي فتحته من 10 سنوات، وحساب «الإنستغرام» الذي فتحته من 6 سنوات، طبعاً حساب «السناب شات» فتحته يومين وعلى طول «سكرته». تبقى المشكلة في «الواتس أب»!
سألته عن هذا التغيير المفاجئ وأنا الذي أعرفه جيداً وأعرف أن «الهاتف الذكي» صار جزءاً ملتصقاً بيده، وأنا الذي أراه في حالة «هيستيريا» إن استنفدت بطارية هاتفه، بل باتت معدات الشحن التي يحملها من أجل أن يستمر الهاتف على قيد الحياة، أكثر مما يحمله سواء أكان الهاتف نفسه أو حتى محفظته النقدية.
قال لي: يا أخي تعبت. تخيل مثلاً، وأنا متعب في الليل وقبل أن أنام -كل يوم- أقرر دخول «تويتر» لدقائق لأعرف آخر الأخبار، فأتفاجأ بأنني قضيت أكثر من ساعتين أتصفح. تخيل أن علاقاتي بأفراد عائلتي وحتى كثير من أصدقائي أصبحت «علاقات إلكترونية»، وأن هناك حالات زعل كثيرة طالتني من البعض فقط لأنني لم أضع «لايك» على صورهم بالإنستغرام.
قالها بنبرة شخص حزين: أريد أن أعود شخصاً طبيعياً، لا تتملكه هذه الوسائل، ولا تأخذ من وقته، وألا تكون هي محور حياته.
طبعاً أتفهم شخصياً كل حرف قاله، وما وراءه من مبررات ودوافع، ولكم أوجه السؤال وتمعنوا في إجابته: إذ كم مرة دخلتم مطعماً أو مقهى ووجدتم مجموعة أشخاص على طاولة واحدة لكنهم لا يتكلمون مع بعض، الكل «يحملق» في هاتفه، ولربما تلقي عليهم السلام والتحية فلا يرد عليك أحد منهم؟! بل كم مرة لاحظت شخصين على طاولة مطعم، لربما كانوا زوجين حتى، لا يتبادلان الحديث لأن كل واحد منهما ممسك بهاتفه؟!
هذه أمثلة بسيطة، بالتأكيد مرت أمامنا، خاصة وأن الموضوع الذي نتحدث عنه يفهم الجميع المقاصد منه، بل يدركون تماماً الواقع الذي نصفه، وأن كثيراً من الناس يقولها وهو مسلم أمره «نعم نحن أسرى السوشال ميديا» وأنه لا حل لذلك، لأنها إحدى أقوى الحالات التي تجعل المثل «إن ما طاعك الزمان فطيعه» يتقافز أمام عينيك ساخراً.
ليس قولنا هنا يعني أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أمر سلبي، بل على العكس، هذه أدوات تعتبر نتاج التطور التكنولوجي الرهيب، وفيها من الإيجابيات الشيء الكثير. لكن المعادلة المنطقية تقول أيضاً بأن «الشيء إذا زاد عن حده، انقلب لضده»، والمعنى بأن كل شيء في حياتنا بأيدينا إما أن نحوله لنعمة، أو على العكس لنقمة.
صاحبنا الذي يريد توديع وسائل التواصل الاجتماعي اعتبر أن «هجرانها» هو الحل، إن إلغاء حساباته هو «طريق العتق» من هيمنتها عليه وعلى وقته وصحته وحياته الاجتماعية. لكنني أرى الخطوة المتمثلة بالهجران والاعتزال «حالة ضعف» في شأن الصراع مع النفس، وتقليل لعزيمة الشخص متى ما أراد شيئاً. بمعنى أن العملية حلها ليس بإلغاء الاستفادة من هذه الوسائل و»تجنبها» كما يتجنب الصائم الطعام والشراب، بل الحل عبر النجاح في تطويعها والسيطرة عليها وتحويلها لأداة إيجابية تسهل حياة الفرد دون سيطرة تامة عليه وعلى تفكيره ووقته، وعلى فكرة، الصائم يفطر بعد الصوم، لكنه إما يفطر بعقلانية وكياسة تجعل الصيام ذا مردود صحي عليه، أو يفطر كما «المفجوع» فيكون عسر الهضم والمغص ضيفين ثقيلين عليه.
تذكر أنت من يتحكم بهذه الوسائل لا العكس، أنت من يحول وجودها لنعمة أو نقمة لا هي، حينما تتعامل معها وأنت صاحب الكلمة والسيطرة والوقت ستخدمك وتسهل حياتك، لكن إن تعاملت معها وأنت مؤمن بأنه لابد لك من ذلك، فأنت التابع لها ستكون المتأثر بها.
عموماً الحديث يطول عن وسائل التواصل الاجتماعي بإيجابياتها وسلبياتها، والتي تتحدد عبر طريقة استخدام الفرد لها، فهناك بيوت عدمت بسببها، وهناك أناس تضررت من ورائها، والله أعرف أناساً يخافون من نشر أي شيء له علاقة بحياتهم الخاصة، باعتبار أن هناك أشخاصاً «عيونهم حارة» وسرعان ما تطالهم آثار العين. نعم هناك من يقول ذلك، وأنا أستمع وأتساءل «طيب، ولماذا تضع حياتك الخاصة هكذا أمام الناس وكأنها دعاية إعلانية؟!».
عموماً زبدة القول، لا إفراط ولا تفريط ومن يحس أنه أسير هذه الوسائل، عليه ألا ينجرف أكثر، عليه مسك زمام المبادرة، وماذا لو جرب أن يعيش يوماً بدونها وبدون استخدام الهاتف الذكي؟!
حياتك ثوان ودقائق وساعات، الأفضل أن تعيش معظمها على أرض الواقع، بدلاً من أن تضيع معظم هذا الوقت كالتائه في عالم افتراضي مترامي الأطراف، أنت تنتهي وهو لا.