تمثل زيارة رئيس دولة لدولة أخرى علامة مميزة في علاقات الدولتين، ولكن زيارة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين لمصر ليست علامات متكررة ومتميزة فحسب، بل هي زيارة محبة أخوة صادقة من ملك عربي أصيل، لديه حس قومي عربي، ولديه رؤية استراتيجية وبصيرة ثاقبة، يتحرك نحو مصر في زياراته، وفي قراراته، من منطلق يسمو على العلاقات الرسمية، ويرتفع فوق الشكليات. إنها علاقة الأخ بأخيه الشقيق حقاً وصدقاً، ولذا دائماً ما نجده يزور مصر في المراحل البارزة في تطورها، والتي تحتاج للتشاور مع مملكة عربية شقيقة، يكن له القادة المصريون بل والشعب المصري مودة وتقديراً خاصين.
ولعل من أبرز اللفتات الكريمة ما قام به جلالة الملك عندما ألمت بالسياحة المصرية كارثة سقوط الطائرة الروسية نتيجة عمل إرهابي قام به من يدعون الانتماء للإسلام وهو منهم بريء. الملك حمد عندما يزور مصر فهو كما يزور المحرق أو الرفاع أو أية محافظة من محافظات البحرين فهو يكون في وطنه وفي نفس الوقت يحظى بالتكريم والتقدير اللائق به كملك لمملكة عربية شقيقة. ولقد احتفلت جمعية الصداقة البحرينية مع مصر بالعيد الوطني البحريني في شرم الشيخ، وسافر الوفد بدعم من الملك حمد بن عيسى وتم الاحتفال في شارع باسمه في شرم الشيخ، وهو من أجمل شوارع المدينة السياحية، التي يطلق عليها مدينة السلام، لكثرة المؤتمرات التي ناقشت قضايا السلام فيها، لتكون رمزاً للسلام الذي نسعى إليه جميعاً من مختلف الدول. كما عقدت بها مؤتمرات تناولت قضايا عربية وإقليمية ودولية عديدة لكي يتداول القادة الرؤى في هدوء بعيداً عن ضوضاء وازدحام القاهرة.
وتمتاز علاقة مصر والبحرين بأنها ترجع للتاريخ القديم، منذ حضارة دلمون، التي كتب عنها المؤرخ الإغريقي المشهور هيرودوت، الذي يطلق عليه أبو التاريخ. ولعله مما يذكر أن الخليج العربي آنذاك كان يطلق عليه البحر الأحمر، بينما كان يطلق على البحر الأحمر الخليج العربي. ثم تغيرت الأسماء للخليج عدة مرات منها مرة في التاريخ القديم أطلق عليه خليج فارس، عندما كانت فارس إمبراطورية، ثم بعد الفتح الإسلامي، أطلق عليه الخليج الإسلامي العربي، ومع يقظة العرب القومية أطلق عليه الخليج العربي. وهكذا فإن كثيراً من الأسماء التاريخية تتغير باستمرار مع تغير مواقع الدول وحضاراتها صعوداً وهبوطاً. وحدث مثل ذلك مع البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط حيث كان يسمى بحر الروم عندما كانت الإمبراطورية الرومانية تسيطر على المنطقة وسمي البحر المتوسط لتوسطه القارت الثلاث.
ولقد زار كثير من المصريين البحرين وفي مقدمتهم شيوخ الأزهر على مر الأجيال ومفتي الديار المصرية، ووزراء الأوقاف. كما تخرج ودرس في الجامعات المصرية وفي الأزهر كثير من أبناء البحرين من الطائفتين الكريمتين، فالأزهر أنشأه الفاطميون ثم أصبح قلعة للمذاهب السنية الأربعة الكبرى، واعترف وأجاز التعبد بالمذهب الجعفري. فالإسلام المصري إذا جاز هذا التعبير هو إسلام بلا مذاهب، فالمذاهب اجتهادات، أما الأصل فهو الذي جاء به النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. والقرآن واحد والنبي واحد والعبادات واحدة تختلف بين المذاهب في الفروع والاجتهادات وهذا لا يؤثر في الجوهر أو القاسم المشترك. الأزهر الشريف يعبر عن مصر المتسامحة المعتدلة المستوعبة لمختلف الطوائف والمذاهب طالما نطق أصحابها بالشهادتين، وقرؤوا القرآن الكريم، وما عدا ذلك فهي اجتهادات مقبولة. واختلاف اجتهادات العلماء هو رحمة من الله وقد أجاز النبي مثل هذه الاجتهادات البشرية ورفض التشدد والتعصب ودعا للتسامح والتيسير على عباد الله، فقال «إن هذا الدين قيم فأوغل فيه برفق وما شاد الدين أحد إلا قطعه». وقالت العرب إن «المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى».
في العام الماضي استضافت مصر في معرض القاهرة الدولي للكتاب البحرين كضيف شرف وقد انتقل عدد من المثقفين البحرينيين مع الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار وهي وزيرة بالغة النشاط والرؤية للثقافة، والتي تراها رمزاً للحكمة وعنواناً للجمال وأداة من أدوات الحضارة الوطنية والعالمية وشارك العديد من المثقفين والكتاب والأدباء المصريين مع أقرانهم من البحرين في ندوات متنوعة حول تاريخ البحرين وثقافتها وشعرائها وكتابها. وأذكر منذ بضع سنين احتفل معرض القاهرة الدولي للكتاب بالمفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري، ومنحه درع المعرض، تكريماً له على إنجازاته الفكرية ذات الرؤية المستقبلية. ومما يحضرني في هذا السياق أن الدكتور الأنصاري درس في بيروت، ولكن كثيراً من مراجعه الأدبية والفكرية اعتمدت على التراث الفكري المصري، وقد سجلت ذلك في كتابي المعنون «الواقعية في الفكر العربي: الأنصاري نموذجاً». والأنصاري مفكر فريد في عصره، عميق في رؤيته، واسع في ثقافته، وهوعندما يتناول القضايا الخلافية يكون متأنياً في حكمه. ودعواتي له بالشفاء والصحة والعافية وكل مؤمن مصاب، وخير المصابين الصابرون. «يتبع».
* عضو جمعية
الصداقة المصرية البحرينية