لا أعرف من قال عبارة «الذين يسامحون من أساء إليهم لا يغيرون الماضي ولكن يغيرون المستقبل»، ولكني أعرف أنها عبارة لو تم توظيفها جيداً في ما آلت إليه أحوالنا بسبب ما جرى في السنوات الخمس الأخيرة يمكن أن تعين على رمي كثير من الأسباب التي تؤدي إلى مزيد من الاختلاف والشقاق في سلة المهملات، فالماضي ولى ومضى ولن يعود، واجترار آلامه يزيد المرء آلاماً ويتسبب في تنغيص العيش ويجعل المستقبل حالكاً بينما مسامحة المسيء من شأنها أن تغير المستقبل، حيث المستقبل مع هكذا فعل يجعل من كان بينك وبينه عداوة «كأنه ولي حميم»، وهذا تعبير قرآني جميل يبين إحدى طرق الإفلات من المشكلات التي تعقدت، وصار صعباً حلها. قال تعالى: (ولا تستوِي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هِي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حمِيم)، الآية «34» من سورة فصلت. في التفسير أن الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه: «ادفع يا محمد بحلمك جهل من جهل عليك، وبعفوك عمن أساء إليك إساءة المسيء، وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم ويلقاك من قبلهم».
الكثيرون سيقولون إن الأمر صعب، وهو بالفعل كذلك، لكنه ليس مستحيلاً وممكناً، بدليل أن الله سبحانه وتعالى دلنا على الطريق الذي يمكن إن سلكناه أن نفلت مما صرنا فيه وصرنا سبباً في «تغيير المستقبل». ما جرى على الجميع في هذه البلاد منذ الرابع عشر من فبراير 2011 لم يكن سهلاً، ونسيانه بالتأكيد ليس سهلاً، لكن لأنه لا يمكن تغيير الماضي لذا فإن الحكمة تقتضي منا العمل على تغيير المستقبل، وهذا العمل لا يكون إلا بمسامحة كل من صدر منه الخطأ، فرداً كان أو جهة، وأياً كانت الأسباب والظروف.
بتعبيرات اليوم، كل ما علينا فعله هو عمل «ديليت» لكل ما حدث لنتمكن من إيجاد صفحة جديدة، هي المستقبل، نبنيه بالكيفية التي تضمن لنا ولعيالنا حياة أفضل، وتحمي وطننا من كل الشرور. صفحة ننقش فيها حياتنا الجديدة البعيدة عن كل الماضي وما احتواه من آلام.
ربما كان هذا كلاماً نظرياً، بل هو كذلك، لكنه ليس مستحيل التحقق. هذا ما ينبغي علينا أن نؤمن به. التغيير لن يكون في الماضي لأن الماضي لن يتغير. التغيير يكون في المستقبل. لو مسحنا كل ما جرى علينا في السنوات الخمس القاسيات وسامح بعضنا بعضاً فإننا نكون قد عملنا على تغيير مستقبلنا ومستقبل وطننا. ربط حياتنا بما جرى في الماضي يحيلها إلى جحيم. الحل هو في أن نصفح وننسى لنتمكن من تغيير مستقبلنا، فمستقبلنا في حالة عدم تجاوز الماضي وتسامحنا ونسياننا لما جرى لن يختلف كثيراً عن ماضينا وحاضرنا إلا في المزيد من التعقيد وصعوبة العيش معاً.
مثل هذا الأمر والتوجه هو ما ينبغي أن يعمل عليه رجال الدين والجمعيات السياسية والمربون وكل الأطراف ذات العلاقة، بل كل فرد، كبيراً كان أم صغيراً. الأمر صعب ولكنه ليس مستحيلاً لو توفرت لدينا الإرادة وقبلها القناعة بأن هذا الطريق الذي بينه رب العزة جل جلاله هو المخرج الأفضل لما صرنا فيه. كل الشعوب التي مرت قبلنا بما مررنا به لم تجد طريقاً غير هذا الطريق لتتحرر من ربقة الآلام والماضي ولتكون سبباً في تغيير مستقبلها الذي بالتأكيد كان يمكن أن يكون حالكاً ومظلماً لو أنها لم تعمل على تغييره بنسيان الماضي وبغض الطرف عن كل ما جرى وبالتجاوز.